والذي يمنع جالية هذا البلد من البعد في الأرض، هو قلة النفقة وكثرة العيال. والدراهم مثلها مثل حروف العطف تجعل الشيء في حكم الشيء حتى يصيرا مجتمعين في المعنى الواحد. وكذلك الرجل إذا كان معه شيء استعان به قوماً فأعانوه على تسيير العيلة وحفظ الجهاز.
وكأني بالقسيس المقيم بمعرة النعمان قد خرج فنزل على القسيس المقيم بتل منس، فكان مثلهما مثل اللامين تدخل إحداهما على الأخرى عند الضرورة، كما أنشد " الفراء ":
لَدَدْتُهمُ النصيحةَ أَيَّ لَدِّ ... فمَجُّوا النُّصْحِ ثم ثَنَوا ففاءوا
فلا واللهِ لا يُرْجَى لِمَا بي ... ولا لِلِمَا بهم أَبداً شفاءُ
وأنشد أيضاً:
فَلَئِنْ قومٌ أَصابوا عِزَّةً ... وأَصَبْنا من زمانٍ رَنَقَا
لَلَقَدْ كنا لَدَى أَرحُلِنا ... لِصَنيعينِ: لِبَأْسٍ وتُقَى
وربما تحول النصراني من بيته فسلمه إلى النصراني الآخر، فكان فيه رجل في معناه إلا أنه ليس به، فمثلهما مثل الضمة في منصور إذا رخمت في النداء على لغة من قال: يا حار، قلت: يا منص. أقيل بضمة الصاد ها هنا في لفظ الضمة إذا قلت: يا منصور؟ وليست هذه بتلك: لأن الضمة إذا أتممت أو رخمت على لغة من قال: يا حار، للبناء، والضمة إذا قلت: يا منص، على لغة من قال: يا حار، تجري مجرى ضمة الاسم العلم إذا قلت: يا زيد. طرأت إحدى الضمتين على الأخرى فزالت القديمة وبقيت الحادثة. ومثل ذلك ضمة القاف في قفل والجيم في جند، إذا رخمت فقلت: قفيل وجنيد، فالضمة في المصغر غير الضمة في المكبر لأن الضمة التي كانت قبل التصغير دخلت عليها الضمة اللازمة أو المصغرات فزالت الأولى وبقيت الثانية. ألا ترى أن كسرة جذع وفتحة عمرو تخلفهما الضمة إذا صغرت فقلت: عمير وجذيع؟ وكذلك فتحة جعفر في الواحد، هي غير الفتحة التي في أول الجمع المكسر إذا قلت: جعافر. ألا ترى أنك إذا جمعت درهما أو برقعا قلت: دراهم وبراقع، فخلفت الضمة والكسرة فتحة الجمع؟ فكذلك تخلف الفتحة الموجودة في الواحد.
وأحر بأن يظل رجل كان يؤم الناس في بعض المساجد قد حل في كنيسة يقيم فيها الصلوات ويتلو الفرقان، فيكون مثله مثل اللام التي خرجت عند الضرورة من قول " السموءل ":
لَيتَ شِعري؛ وأَشعرَنَّ، إِذا ما ... قرَّبوها منشورةً ودُعِيتُ
أَلىَ الفَضْلُ أَم عليَّ إِذا حُو ... سِبْتُ أَني على الحسابِ مُقيتُ
أراد: ولأشعرن، في أحد القولين. ودخلت في قول الراجز:
أُمُّ الحُلَيْسِ لَعَجوزٌ شَهْربَه ... ترضى من اللحمِ بعَظمِ الرقبَه
ويدرك الجالية فناء الزاد لأن الأمر نزل بهم بغتة، فترى من كان يأكل البر وقد أقوى فصار يأكل الشعير. فمثله مثل شاعر يقوى في القصيدة، يبتديء بها مرفوعة ثم يخفض. لأن الشعير دون البر في القيمة والمصلحة، وذلك مثل ما قال الشاعر:
فمَلَكْنا بذلك الناسَ حتى ... مَلَكَ المنذرُ بنُ ماءِ السماءِ
والشعير والبر جنس واحد في بعض أقوال الفقهاء. فعند من زعم ذلك ا، من اشترى قفيز بر بقفيزى شعير فقد رابى. وإلى هذا القول ذهب " مالك بن أنس " وقد روى عن " جعفر بن محمد ". فأشبه المتعوض من البر بالشعير من أكفأ في القوافي فجاء بالميم مع النون، والدال مع الطاء. أنشد " الجرمى " لا مرأة من خثعم هويت رجلاً يقال له " جحوش " والأبيات مختلف فيها ولمن هي، وبعضهم ينشد في أولها هذا البيت:
إِن كنتَ من أَهلِ الحجازِ فلا تَلِجْ ... وإِن كنتَ نجدِيّاً فَلِجْ بسلامِ
فلَيْتَ سِماكِيّاً يَحَارُ رَبابُه ... يُقَادُ إِلى أَهلِ الغَضا بزِمامِ
فيَشربَ منه جَحْوشٌ ويَشِيمُه ... بِعَيْنَي قَطامِيٍّ أَغرَّ يَمانِ
وقال الراجز:
بِتْنَا بحَسَّانَ ومِعْزاه تَئِطْ ... في لَبَنٍ منها وسَمْنٍ وأٌقِطْ
حتى إِذا جَنَّ الظلام واختلطْ ... أَمْهلنا حتى إِذا النجمُ سَقَطْ
جاءَ بضَيْحٍ هل رأَيت الذيبَ قط ... فاغتبق القومُ فلم يَبْقَ أحد
وقال آخر:
جاريةٌ من ضَبَّةَ بنِ أُدِّ ... كأَنَّ تحتَ دِرْعِها المُنْعَطِّ