شطّاً رميتَ فوقَه بِشَطِّ
فإن اضطر الرجل فلم يجد شعيراً يقيمه مقام البر فأكل عنجداً أو فراساً أو نحو ذلك. فمثله مثل من أكفأ فجاء بحرف لا يقارب الأول، كما أنشد " سعيد بن مسعدة ":
فقال لِخِلَّيْه ارْحَلاَ الرَّحْلَ إِنني ... بِعافِيةٍ والعاقياتُ تدُورُ
فبَيْنَاه يَشْرِي رَحْلَه قال قائلٌ ... لمَنْ جَمَلٌ رخْوُ المِلاَطِ نَجِيبُ
وتسمع تضاغي الأصيبية من فقد الأطعمة، ويصير من كانت له عادة بأن يوطيء في المطاعم، لا يصل إلى الوجبة إلا بعد المسألة والاحتيال.
وأوشك بالرجل من يهود أن يفتقر إلى الرجل من رهط المسيح. فإن كان المتهود حصيف العقل أرم وشغله ما هو فيه عما سلف من حديث الأنبياء، وأرى النصراني أنه غير حافل بدين التوراة. ولا آمره بمخالفة الدين ولكن أحثه على حسن العشرة وسياسة الأمور. فمثل هذا الرجل إذا افتقر إلى غيره فحل في منزله، مثل الحرف المدغم لقيه الحرف الآخر فانقلب الأول إلى حال الثاني. ألا ترى أنك لما أردت أن تدغم الخاء في الغين جعلت الخاء غيناً فقلت: اسلخ غنمك، فجعلت الخاء من اسلخ غيناً لمكان إدغامها في غين غنمك؟ وكذلك لام التعريف تصير مع الراء راء إذا قلت: الرجل، ومع الدال دالاً إذا قلت: الدر. وعلى هذا تجري حال المدغمات.
وإن كان صاحب يهود متهور الجول، أخذ في شيء من أحاديث الأولين فأبغضه النصراني وتذكر ما بينهما من الذحول، واعتقد فيه ما جاء في الكتاب الكريم: " قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفا صدورهم أكبر ".
ويبغي للحازم في الشدائد أن يكون مثل الهمزة، يخالق النفر بما يريدون ويسكت على ضمائر النفس فإنه لا يقضي المأربة باللسان. وليس في الحروف حرف أكثر مسامحة من الهمزة. ألا تراها إذا كانت ساكنة في مثل رأس وبؤس وذئب، فبلغت بها ما تستحقه من الهمز فهي كالحروف الصحاح، ويجوز أن تقول في القوافي: " رئم " مع سهم، و " سؤل " مع جمل، و " شأم " مع وخم؟ فإذا اتفق لها أن تصاحب في القوافي حروف اللين صارت ألفاً في شام، وياء في ريم، وواواً في بوس وسول، فجرت مع: رام، وجول، وهيم؟ وهي في ذلك غير جارة للعيب، بل قد أدت حق الحروف الصحيحة في حسن العشرة، وتكلفت لحروف اللين ما ليس هو لها أصلاً في الحقيقة. قال الراجز:
لا تَقربَنَّ الشَّامَ إِنَّ الشأْمَا ... كان لِدُرَّاءِ العِراقِ وَخْمَا
فالهمزة في الشأم محققة لا يجوز فيها التخفيف بحال في هذا الموضع لأنها موازية لخاء وخم. وقال " جبيهاء الأشجعي ":
إِن المدينَة لا مَدِينةَ فالزَمِي ... نَعْفَ السِّتارِ وقُنَّةَ الأَوجامِ
يُجْلَبْ لكِ اللبنُ الغريضُ ويُنتَزَعْ ... بالعِيسِ من يَمَنٍ إِليكِ وشامِ
ألا ترى إلى الهمزة كيف لزمت التحقيق في ذلك الرجز، ولزمت التخفيف في هذا الموضع لما احتاجت إليه؟ ومما توصف به الهمزة من الحكمة أنها إذا لقيت همزة في كلمة واحدة، لم يكن بد من تخفيف إحدى الهمزتين.
فذلك مثل للرجل الحازم يلقى مثله فيعلم كل واحد منهما أن اجتماعه مع الآخر يشق عليه، فيلزم أحدهما نفسه التخفيف. وربما ترك وطنه وارتحل إذا كان الآخر من جنسه، وذلك مثل الهمزة في قول " الخليل " لما لقيتها الهمزة في " جائىء " وإحداهما همزة فاعل التي تحدث في المعتل: قائم وبابه، والأخرى الهمزة الأصلية. " فالخليل " يرى أن همزة فاعل نقلت من مكان العين وجعلت مكانها الهمزة التي من الأصل.
وربما علم الرجل الأصيل الرأي أن مكانه ينقل فانصرف وإن لم يلقه نظير له، فيكون مثله مثل الهمزة حذفت من سائر فقيل: سار قال " الهذلي ":
وغَيَّر ماءُ المَرْدِ فاها فلونُه ... كَلَوْنِ النَّئورِ وهْيَ أَدْماءُ سَارُها
أي: سائرها. وإنما يحمل الهمزة على ذلك مجاورتها الألف، لأن الألف أقرب حروف المعجم إلى الهمزة، ولذلك تركت مكانها في قولك: راء وشاء، والأصل: رأي وشأي، قال الشاعر:
وكلُّ خليلٍ راءَني فهو قائل ... من أجلِكِ هذا هامةُ اليومِ أَو غدِ
وقال " عمر بن أبي ربيعة " فجمع بين اللغتين:
بان الحُمولُ فما شَأَوْنَكَ نَقْرَةً ... ولقد أَراكَ تُشاءُ بالأَظعانِ
شأونك: سقنك، وتشاء: تشاق.