وربما تركت الهمزة مكانها للحرف الضعيف ولم تصبر على المضارة، أو تكون رغبت في التفضل على المجاورة كما قالوا: را، يريدون: رأي.
قال الشاعر:
ومَنْ رَا مِثلَ مَعْدانَ بنِ لَيْلى ... إِذا ما النسْعُ جالَ على المَطِيَّهْ
وقالت امرأة من العرب:
مَن بيَّن الأَخَوينِ ... كالغُصْنَينِ أَم مَنْ رَاهُما
فكأنها تشبه في هذا الصنيع رجلاً فيه كرم وشدة لو أراد لضار جاءه وأقصاه، فيحمله الكرم على تخلية مكانه له. وقد رأيت الهمزة حذفت من ترى، وأصلها أن تجيء فيه كما جاءت في قوله تعالى: " وهم ينهون عنه وينأون عنه ".
ولكنها بعدت من موطنها فلم ترجع إليه إلا عند ضورة، كالرجل فارق الوطن فلم يلمم به إلا عند النائبة. قال الشاعر:
أَلا إِنما ذا الدهْرُ يومٌ ولَيلةٌ ... ومَنْ يُحْيَ في الأَيامِ يَرْأَ ويسمَعِ
ومثلها في هذا الموضع مثل الرجل لا يدخل وطنه إلا عند شريطة. ألا ترى أن الفصحاء لا يقولون: ترأى، في المنثور، وإنما يستعملونها في المنظوم لإقامة الوزن؟ وكذلك وجدناهم يحذفون الهمزة إذا كانت طرفاً وقبلها ساكن، ويلقون حركتها على ما قبلها فيقولون: خذ الجز و " قريء ": " يخرج الخب في السموات والأرض ". فإذا كان ذلك في الشعر حذفت الهمزة إلى آخر الدهر لأن رجوعها يكسر، قال " حسان ":
فَرَهنتُ اليدينِ عنهم جميعاً ... كلُّ كفٍّ لها جُزٌ مَفصومُ
وإذا اتفق لها ذلك في النثر، جاز أن ترجع وجاز ألا ترجع. وكذلك حالها في: يسأل وبابه، إذا كانت في النثر فهي في الرجوع على أحد أمرين وإذا كانت في النظم فلا تقدر على رجوعها إلى الوطن، كما قال " القطامي ":
وقد يَزيدُ سؤالُ المرءِ معرفةً ... ويَستريحُ إِلى الأخبارِ من يَسَلُ
فغرب الله من يبغض السيد " عزيز الدولة " - أعز الله نصره - عن وطنه، تغرب الهمزة في " يسل " عن الوطن، فإنها يائسة أن ترجع إليه وتلك الغربة هي غربة الموت لأنها فقدان الشخص.
وما أحسن بالقوم التأسي إذا نزلت الشدائد! فحقيق على الغنى إذا شبع ألا يترك جاره الفقير وهو طاو، وألا يحوجه إلى المسألة، بل يكفيه النظر إليه إلا كما قال " الأفوه الأودي ":
أَلْوَتْ بإِصْبعِها وقالت إِنما ... يكفِيكَ مِمَّا لا تَرى ما قد تَرى
لا يَسْتَوِي الجارانِ أَن يتجاوَرا ... هذا أَخو شِبَعٍ وذا طاوِي المَعِي
ألا ترى أن الكاف في: بكر، لما اضطرت إلى الحركة في بيت " أوس " دخلت مع الباء في الكسر ولم ترغب في الضمة، فعد ذلك فيها من المواساة؟ قال " أوس ":
لنا صرخةٌ ثم إِصماتةٌ ... كما طَرَّقت بِنِفَاسٍ بِكِرْ
ففي هذا مثل لمن يأخذ نفسه بزي جاره ويترك مضاهاة الأبعدين. وكذلك قول " الهذلي ":
ماذا يَغِيرُ ابنتَيْ رِبْعٍ عَويلُهُما ... لا ترقُدانِ ولا بُؤسَى لمَنْ رقَدا
كِلتاهما أَبْطنتْ أحشاؤها قصَباً ... من غابِ حَلْيَة لا عَشّاً ولا نقِدا
إِذا تجاوَبَ نَوْحٌ قامتا معه ... ضرباً أَليما بِسِبْتٍ يَلْعَجُ الجِلِدا
ألا ترى أن اللام لما اضطرت إلى الحركة رغبت أن تنكسر مثل الجيم؟ وروى عن " الخليل " أنه كان يمشي مع " ابن مناذر " الشاعر، فانقطع شسع نعل " ابن مناذر " فنزع نعله. فلما رآه " الخليل " فعل مثل ما فعل، فقال له ابن مناذر: ما هذا أبا عبد الرحمن؟ قال: أردت أن أساويك في الحفاء.
فإن زعمت أن كاف بكر ولام جلد أساءتا في مجانبتهما الراء والدال، ومواساتهما الباء والجيم؛ فكذلك يجب، لأن الباء أسبق حرمة إلى الكاف وأقدم صحبة في بكر، وكذلك الجيم في جلد، لأنك تنطق بهما قبل الراء والدال. وفي كتاب الله تعالى: " والسابقون السابقون، أولئك المقربون ".