للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ويدعو ما يلقاه النافرون من ضيق الأنفس وحرج الصدور، إلى تشاجر الشركاء واختلافهم في الجهات المقصودة، ويحملهم ذلك على الفرقة، إما قبل الرحلة ممن المصر وإما بعد الظعن عنه. فرما كان الرجلان شريكين ولك واحد من رأس المال ما يمكن أن يستبضع فلا تضره الفرقة. فيكون مثلهما مثل قناديل وسمادير: إذا قسمت هاتان الكلمتان وما كان مثلهما من الكلام، فإن الشطرين يمكن بكل واحد منهما نطق الناطقين وإن اختلفت المعاني قبل القسمة وبعدها؛ فإنك إذا نقلت الشطر الأول أو الثاني إلى غير معناه الأولصلح. ألا ترى أن سمادير، والمراد بها الغشاوة التي تدرك العين والإظلام يكون في البصر، إذا قسمتها شطرين فشطرها الأول سما، من قولك: سما يسمو. وشطرها الثاني دير، من قولك: دير به يدار به فهو مدور به؟ وقد يكون الشريكان لأحدهما أكثر من الآخر وتكون لصاحب القليل مبقية بعد الفرقة. فمثلهما مثل مساجد وسفرجل، إذا أخذ منهما: مسا وسفر، بقي منهما أقل مما ذهب، إلا أنه يمكن أن ينطق به، وله معنى يتصرف في بعض الوجوه. ألا ترى أن قولك: جد، هو أمر من قولك: وجد يجد؟ وقولك: جل، يجوز أن يقع في قافية من قولك: جل الأمر يجل، بتخفيف اللام؟ وإذا كان الرجلان لأحدهما شطر يمكنه أن يتجر به، والآخر يضيق أمره عن ذلك، فمثلهما مثل الثلاثية من الأسماء، إذا قسمتها على حرفين وحرف، فالحرفان يمكنك بهما النطق، والحرف الواحد لا يتأتى ذلك فيه إلا أن تصله بسواه.

وربما رأيت الشريكين معيشة كل واحد بالآخر، وإذا افترقا لم يكن لهما بد من الاتصال بسواهما لأن الحاجة دعت إليه. فمثلهما مثل: " حرفين إذا اجتمعا أفادا معاً، وإذا افترقا عدمت الفائدة، فمثلهما " مثل: لك، وما كان مثلها من الحروف المتألفة. وإذا فارقت اللام الكاف لم تعطك فائدة إلا أن تصلها بغيرها من الأسماء. ويشبهان أيضاً ما ليس له نصف من الأوزان المشطورة، فلا يمكنك فيه القسمة. ألا ترى أنك لو أردت تصريع قول الراجز:

حَلَّتْ سُليْمَى جانبَ الجَرِيبِ

لم تصل إلى ذلك؟ وأنت عن تصريع المنهوكين من المنسرح أعجز، لضيقهما عما يجب للتصريع. مثل قول نادبة " سعد بن معاذ ":

وَيْلُ أم سَعْدٍ سَعْدَا

صرامةً ومَجْدَا

وفارِساً مُعَدّا

سُدَّ به مَسَدَّا

وكذلك هذه الأبيات التي أنشدهما " أبو نصر: صاحب الأصمعي في كتاب الألفاظ:

أَرُبَّ مُهْرٍ مَزْعوقْ ... مُقيَّلٍ أَو مغبوقْ

من لبَنِ الدهْم الرُّوقْ ... حتى شتا كالذُعْلوقْ

أَسْرَعَ من لمْحِ الموقْ ... وطائرٍ وذِي فُوقْ

وكلِّ شيءٍ مَخلوقْ

فلو صرعت مثل هذا لخرج من حكم الشعر إلى حكم المنثور.

وربما اتفق أن يكون الشريكان مختلفي الملة، فتكون البغضاء أشد والشحناء أكثر. فأما اليهودي والنصراني إذا اجتمعا بتل منس وأخذا في المذاكرة بحديث الأنبياء وكان اليهودي في بت النصراني، فتلك هي الفاقرة:

أُكاشِرُه وأَعلمُ أَنْ كِلانا ... على ما ساءَ صاحبَه حَرِيصُ

فمثلهما مثل القتال والنمر، صلحهما على دخن ومودتهما ليست بالدائمة:

كِلانا عدُوٌّ لو يَرى في عدُوِّه ... مَحَزّاً، وكلٌّ في العداوةِ مُجْمِلُ

إِنَّ زماناً أَيها البَكْرُ ضمَّنِي ... وإِياكَ في كلْبٍ لشرُّ زَمانِ

فيجوز في قدرة الله تعالى أن ينطق الثعلب فيقول: صدقت أيها، الشاحج، أنك للكهل المجرب وإني لراغب في استماع ما عندك من الأمثال، ولكن الشمس قد هوت للغروب، وإني منصرف إلى مصر الجالين فداخل في الليل مع النموس نعتس في منازل القوم، ولعلنا نصيب شيئاً من فضل الله، فلم نعدم طائراً في تمراد أو دجاجة قد حضنت الكيك، ونحو ذلك مما ينتفع به الصعلوك. وأجيئك إذا الصبح جشر، بأخبار الناس.

فيقول الشاحج إذا شاء الله: امض على غلوائك، فقد هممت أن أكلفك توكف الأخبار وإلقاء ما يصح منها عندك إلي. وإذا هجمت أنت وقتئذ منازل القوم، فاحذر أن تريب طير الرسائل فإن حقها عظيم.

فيمضي الثعلب حتى إذا تبين سوادٌ سواداً، جاء فسلم على الشاحج وورد، ثم قال:

<<  <   >  >>