أخبرك أعانك الله أني دخلت المدرة في طائفة من الثعالب والنموس، فوجدنا القوم قد احترزوا من كل متعرض لهم بسوء. وألفينا في كل ربع من ربوعهم واحداً قد تخلف لمراعاة الربع. فمثله مثل السبعان في بابه، لا يوجد على هذا المثال غيره فيما زعم " سيبويه " وقد خولف. وكذلك سخاخين، وهو في معنى سخن، لا يوجد على فعاعيل غيره. قال الراجز:
فلم نصادف غرة من المنصرفين. وخرجت أقفو آثار الجالية فانتهى بي الأثر إلى " تل منس " وقد نزل بها معظم الناس. فسمعت الجالية يشتورون في المساجد والكنائس ويديرون الرأي، فلا تنصرم لهم عزيمة ولا تبرم بأيديهم مرة. بل يختلفون اختلاف العرب في الوقف: فبعضهم يقف على السكون فمثله مثل من رأى أن يقيم بحيث هو من هذه القرية. وبعض العرب يشم ويروم عند الوقف، فذلك مثل من يروم النهوض إلى مظان الأمن ولا يجد سبيلاً إلى ذلك. وبعضهم يشدد الحرف الموقوف عليه ليدل على حركته في الإدراج، فذلك مثل من يعزم عن النهوض ويمثله بين عينيه. ولو قبلت المشورة من مثلي لهديتهم إلى الرشد، ولكن لا رأى لم لا يطاع:
أَمَرتُهمُ أَمْرِي بِمُنعَرَجِ اللِّوَى ... ولا أَمْرَ لِلمَعْصِيِّ إِلاَّ مُضيَّعَا
لا ينبغي أن يبيتوا في هذه المحلة إلا الليلة أو الليلتين ولا أشير عليهم بالسلوك جهة الشرق لأنه ناسب لفظ الشرق؛ و " جرجناز ": جرج ناز؛ و " الكفير " وإن كان أهلها أحراراً فإن لفظها من لفظ الكفر؛ و " عجاز " من العجز؛ و " الحيار ": من الحيرة. ولا يسبق إلى ظنك أيها الشاحج أنني خالفت الحديث المروي وهو قوله عليه السلام:" لا عدوى ولا طيرة " فقد رويت عنه صلى الله عليه وسلم أحاديث تشبه كراهتي أسماء هذه المواضع. منها أنه قال لرجل:" ما اسمك "؟ فقال: شهاب. فقال صلى الله عليه وسلم:" بل أنت هشام " كأنه كره شهاباً لأنه من شهاب النار. وولد لرجل مولود في زمانه فقال " ما سميتم مولودكم؟ " فقالوا: الوليد. فكره ذلك وقال كلاماً معناه:" لا يزالون يسمون أبناءهم بأسماء الجبابرة " يعني " الوليد بن المغيرة " وأن فرعون كان سمى الوليد في بعض الروايات! ويقال إنه " صلى الله عليه وسلم " سمى " الحباب بن المنذر الأنصاري: عمراً " وقال: " الحباب شيطان " ومعنى ذلك أن الحباب من أسماء الحيات. ولما أرد الرجل أن ينزل إلى الركية في غزاة الحديبية قال:" ما اسمك "؟ قال: مرة. فقال:" وراءك " ثم جاء الآخر فقال: ما اسمك؟ فقال: ناجية. فأمره بالنزول. فأما الفأل فلا شك أنه كان يعجبه صلى الله عليه وسلم. وإذا رددت الفأل والطيرة إلى القياس وجدتهما يصدران عن غار واحد.
وأنا أذكر شيئاً من حكم الفأل ليكون حجة على ما آمر به من التدبير: إن الذين كانوا يستعملون الفال وروى عنهم القول به، لم يكونوا يحملونه على التصريف والاشتقاق في كل المواطن، بل يجرونه مرة على ذلك، ومرة على مقدار الظاهر من اللفظ. لأن الفال والطيرة إنما هما بالظن والاتفاق. فمن ذلك ما روى عن " الحسين " رضي الله عنه أنه لما سأل عن الموضع الذي قتل فيه، قالوا له: كربلاء. قال:" كرب وبلاء " وإذا أخذت من كربلاء لفظ الكرب لم يبق من الكلمة لفظ بلاء، وإذا أخذت منها لفظ البلاء لم يبق منها لفظ الكرب، وإنما ذلك شيء يقع بالتقريب.
وروى أن " أبا جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس " لقيته البيعة لما مات " السفاح " بموضع يقال له " الصفينة " فقال: " فصت لنا إن شاء الله " والصفينة ليست من لفظ صفت، ولكنه أخذ صدر الكلمة فحمله على الفأل. وأنشد " ابن الأعرابي " في النوادر أبياتاً فيها نحو من هذا الحمل على بعض الكلمة. وقد ذكرها " أبو الفضل بن العميد " في رسالته إلى " ابن سمكة " والرواية التي ذكرها " ابن العميد " أوفى وأتم. والأبيات:
لعَيْناكَ يومَ البينِ أَسْرَعُ واكِفاً ... من الفَنَنِ المَمْطورِ وهو مَرِيحُ