للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عُقَابٌ بإِعْقَابٍ من الوصْلِ بعدما ... جَرَتْ نِيَّةٌ تُسْلِي المُحِبَّ طَرُوحُ

وقالوا: دَمٌ، دامتْ مواثيقُ ... عَهدِها ودامَ لنا حُلْوُ الوِدَادِ صَرِيحُ

وقالَ صِحَابي: هُدْهُدٌ فوقَ بانةٍ ... فقُلتُ هُدًى يَغدُو لنا ويَرُوح

وقالوا: حَمَاماتٌ، فَحُمَّ لِقاؤها ... وطلْحٌ، فنِيلَتْ والمَطِيُّ طلِيحُ

فاشتق عقاباً من الإعقاب، وهذا صحيح في التصريف. وتفاءل لما ذكر له الدم، من لفظ دامت فقال: دامت مواثيق عهدها وليس الدم من لفظ دامت. وتفاءل لما ذكر له الهدهد فقال: هدى يغدو لنا ويروح وليس الهدهد من لفظ الهدى، ولكن الكلمتين أشبه صدر إحداهما صدر الأخرى، كما أن الدم قارب لفظه لفظ دامت وإن كان مخالفاً لها في الاشتقاق. وكذلك روي عن بعضهم أنه قال في همدان، اسم هذه القبيلة: إنه هم دان. وهذا على سبيل الطيرة يشبه ما مضى في كربلاء.

وإنما ذكرت ذلك لأخبر أن الجالية إذا عمدت للشرق والمنازل المتقدم ذكرها في كراهة الأسماء، كانوا قد أخذوا بما يكرهه بعض الناس.

ولو قدر لهم التوفيق لأجمعوا على السير إلى " حلب " حرسها الله، لأن في دنوهم إلى الحضرة العالية أعظم سعادة وأسنى حظ. والذين وفقوا منهم لليمن قد ركبوا تلك المحجة، وذلك أنهم لايعدمون في طريقهم ضروباً من الفأل، يمرون بسرمين، وإذا حملت على ما تقدم من قول القائل في همدان: هم دان، ومن قول الآخر في هدهد: هدى؛ فصدرها من لفظ السرور، وباقيها مين، من المين، فعل ما لم يسم فاعله، أي هذا الخبر عن العدو مين قد مين أي كذب. وإن عرضت لهم في الطريق " زردنا " فيجب أن يغلبوا عليها الفأل فيقولوا: هي زردنا، أي درعنا التي من الزرد، والدرع وقاية من العدو. وإنما قلت ذلك مخافة أن يظن ظان منهم غير هذا المعنى فيحملها على الطيرة فيقول: هي زردنا، والزرد الخنق. والكلمة الواحدة تتصرف على الطيرة والفأل. ألا ترى إلى قول " الجران ":

فأَما العُقابُ فهْيَ منا عُقوبَةٌ ... وأَما الغُرابُ فالغَرِيبُ المطَرَّحُ

فهذا حملها على ما كره. وقال الآخر

عُقابٌ بِإِعقاب من الوَصْلِ بعدما ... جرتْ نِيَّةٌ تُسْلِي المُحِبَّ طروحُ

فهذا حملها على ما أحب.

وإذا بلغوا " جبل جوشن " فالجوشن جنة يدفع بها الشر. وإذا رأوا حفر الخندق فحملوه على ما تقدم، فإن شطر هذه الكلمة فألان يدلان على السعادة: خن، يشبه خن العدو، إذا استأصله، حكى ذلك عن " العباس ابن الفرج الرياشي "؛ ودق، يشبه دق الجيش إذا هزمه. وكذلك يفعل " السيد عزيز الدولة " - أعز الله نصره - بجيوش الأعداء.. و " قويق " النهر، يشبه صدر لفظه الأمر للجماعة بالتوقي، كما قال تعالى: " قوا أنفسكم وأهليكم ناراً " ومما يشبه هذه الأحكام، ما حكم به المفسرون في تعبير الرؤيا، من أنه إذا رأى الإنسان في منامه سفرجلاً، حكموا عليه بالسفر.

وقد علمنا أن صدر سفرجل غير مراد به السفر من الأسفار، ولكنه شيء يحمل على تقارب اللفظ وما يكون حسناً في الظن. وأما " حلب " حرسها الله فلفظها يحتمل أمرين كلاهما فأل محمود: إن كانت من: أحلبت القوم أي نصرتهم فحسبها فألاً بالنصر. ويقال للذين ينصرون الرجل من بني أبيه أو قبيله الحلائب، قال " اليشكرى ":

ونحنُ غَداةَ العَيْنِ عَيْنِ مُحَلِّمِ ... نصرناكَ إِذ ثابتْ عليكَ الحلائِبُ

وإن كانت من الحلب، حلب اللبن، فحسبها بذلك خيراً وبركة.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل على امرأة فقال: " مالي لاأرى في بيتك بركة؟ " قالت وما البركة؟ قال: " مالي لاأرى في بيتك شاةً؟ " وإنما سمي الشاة بركة من أجل اللبن. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم حديث معناه، أنه ليس فيما يؤكل ويشرب شيء يجري مجرى اللبن، لأنه طعام وشراب. وحسب اللبن من الفضيلة أنه غذاء لجميع ولد آدم صلى الله عليه، به تربي الأطفال ولا ينوب منابه سواه.

وكذلك قالت العرب: لله درك، أي: لله اللبن الذي أرضعت به.

<<  <   >  >>