للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولقد ترك أولئك القوم، أعنى الذاهبين عن أوطانهم، جهة الحزامة وهم عليهامقتدرون. ولو كاتبوا الحضرة العالية منتصرين بما يفد عليهم من الآراء، لكفوا مئونة الرحلة. ولكنهم هابوا الحضرة وأعظموها وأعرضت لهم الفائدة فأعرضوا عنها، وأرادوا التخفيف عن السلطان - أعز الله نصره - فثقلوا على أنفسهم، فكان مثلهم مثل علابط: كان والألف فيه كلمةً خفيفةً، والدليل على خفته أنه لم يكن يمتنع منه وزن من أوزان الشعر.

بل يدخل في خفيف وثقيل، وطويل من الأوزان وقصير. فاستطال علابطاً بعض الناس فحذف منه الألف فاجتمع فيه أربعة أحرف متحركة، فثقل في السمع ولم يذلك لركوبه كل وزن، ولكنه احتمله بعض الأوزان لكثرة حروفه، واحتمله بعضها لخفته ومهانته، فأمكن أن يدخل هو ومثله في الوزن البسيط لأنه من ملوك الشعر، وهو مع ذلك يجري مجرى الوزير للملك إذ كان هو والطويل كالملكين للشعر، وهما من بعد أخوان.

فمثلهما مثل ابني " سبأ بن يشجب " وهما حمير وكهلان: جعل أبوهما سبأ الملك لحمير وسلم إليه السيف، وجعل الوزارة لكهلان وسلم إليه الترس. وكلاهما من أهل بيت المملكة، إلا أن الطويل أولى بالملك من البسيط. ألا ترى أنه لم يقبل " علبطاً " ونحوه، لأن الملوك لا تحتمل تثقيل العامة، واحتمله البسيط. لأنه وزير الملك، والوزراء واجب عليهم حمل الأثقال؟ ومما احتمل فيه البسيط كلمة تجري مجرى علبط في اجتماع المتحركات قول " النابغة ":

فحَسَبُوهُ فأَلْفَوه ما حَسَبَتْ ... تِسْعاً وتِسعين لم تَنقُصْ ولم تَزدِ

فاحتمله هذا الوزن لعظم شأنه في نفسه، ولأنه يرى حمل الأعباء عن الملك فريضة مؤكدة. وأما الوزن الذي يحتمل: علبطاً، ونحوه لخفته ومهانته، فبحر الرجز والسريع، كما قال:

وقد شرِبْنا لَبَناً هُدَبِدَا ... وقد تركنا في الدِّيارِ رَثَدَا

وقد يجيء علبط، في سوى هذه الأوزان إذا وقع في القافية المقيدة، وحسبك بهذه نقيصة. ما قولك في رجل لا يقدر أن يحضر مجلساً مع القوم إلا وهو في غل وصفاد؟ وأحذر الجالية من بيوت الأعراب. يا حضرية لا تصلحين لجوار البدوية! إن بيت الأعرابية من الشعر وكأنه بيت الشعر إنما هو رائح وغاد، يسلك بهضب أو واد، ويحل تارة عند الوعل والظيان، ويضرب مرة بين خزامى الدمث وعند طبي السهل الطيان. شربها في أخلاف الإبل وضروع الشاة، ولا تختبز لغداء أو عشاء:

كانت لنا من غَطْفانَ جارَهْ ... جارةُ صِدْقٍ من بَني فزارَه

حَلاَّلَةٌ ظَعَّانَةٌ سَيَّارَه ... كأَنها من بُدُنٍ وشاره

مدفَعُ مَيثاءَ إِلى فَزاره ... تَبِيتُ بينَ الزَّرْب والحِظاره

كأَنما باتتْ عليها فاره وإنما بيوت الأعراب كالقوافي الجذ، مثل ما قال " القطامي ":

وطالما ذَبَّ عني سُيَّرٌ شُرُدٌ ... يُصبِحْنَ فوق لسانِ الراكبِ الغادِي

وقال " المسيب بن علس ":

فَلأَهْدِيَنَّ مع الرياحِ قصيدةً ... مني مُغَلْغَلةً إِلى القَعْقاعِ

تَرِدُ المِياهَ فما تزالُ غَريبةً ... في القومِ بين تَمثُّلٍ وسماع

فما ظنك بحواء ينتقل من الجبل إلى القاع، ويشبه بهدية " المسيب إلى القعقاع "؟ وما كان من بيوتهم مبنياً على ثمانية أعمدة أو نسائج ثمان، فهو يشبه ما كان من الشعر على ثمانية أجزاء. وتلك بيوت أمرائهم وأملاكهم تشابه من الموزون قول الشاعر:

قِفا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل

وقول الآخر:

إِنا مُحَيُّوكَ فاسلمْ أَيها الطَّلَلُ

وما كان نحو ذلك. والذي يبنى من بيوتهم على ستة أعمدة أو من ست نسائج، يشبه ما كان من الشعر على ستة أجزاء، مثل قول " عنترة ":

هلْ غادرَ الشعراءُ من مُتَرَدَّمِ

وقول " عمرو بن كلثوم ":

أَلا هُبِّي بصَحْنِكِ فاصبَحِينَا

وما كان مثل ذلك وهو كثير. وهذه دون تلك في الرتبة، وهي لمن دون الأمراء.

وما كان من بيوت البادية على أربعة أعمدة أو مبنياً من أربع نسائج فهي بيوت العامة منهم، تشبه من الموزون ما كان على أربعة أجزاء، كقول القائل:

اِسلَمِي أُمَّ خالدِ ... رُبَّ ساعٍ لِقَاعِدِ

وكقول امرأة من عاد. فيما يزعمون:

<<  <   >  >>