للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَلَلَيَّهْ أَلَلَيَّهْ ... ما جنى الوفدُ عَلَيَّهْ

وما كان من بيوتهم على ثلاثة أعمدة أو مبنياً من ثلاث نسائج، فتلك بيوت الضعفاء والعبيد، تشبه من الموزون ما كان مشطوراً على ثلاثة أجزاء، مثل قول الراجز:

يا دارَ سلمى يا اسلمي ثم اسلمِي

عن سَمْسَمٍ وعن يمينِ سَمْسَمِ ومثل قول الآخر:

أَقبَلْنَ من نِيرٍ ومن سُوَاجِ ... بالقومِ قد مَلُّوا من الإدلاجِ

فهُمْ رَجَاجٌ على رجَاجِ

وما كان من بيوتهم على عمودين، فهو ما لا يمكن أن يكون بيت دونه، يشبه من الشعر ما كان على جزءين، كقول الراجز:

يا رِجْلِ لا تُراعِي ... إِن معي ذراعِي

وكقوله:

أضرِبُهمْ باليابِسِ ... ضَرْبَ غُلامٍ عابِسِ

من الحياةِ آيِسِ وهو المنهوك من الشعر. وللسيد " عزيز الدولة " - أعز الله نصره - فضل على غيره من الملوك مثل فضل الطويل على المنهوك، لا بل أعظم وأكثر. إذا كان الطويل إنما غاية عدته ثمانية وأربعون حرفاً، والمنهوك أطول ما يكون أربعة عشر حرفاً، وأقصر ما يكون عشرة أحرف.

وجميع هذه الأبيات المذكورة من بيوت العرب وبيوت الشعر، على قصرها وطولها، وخفتها وثقلها، سيارة في أرض الله، فما ظنك يا حضرية بأهل دار يحمل بيتهم على البعير ويدلج به في العير؟ ريحانك نبت في حوض وريحان البدوية مبثوث في الروض. ولو نزلت في حللهم " الجرادتان " وهما المغنيتان اللتان كانتا على عهد " قيل بن عتر " من عاد، لتمنتا أنهما جرادتان تطيران وتزفيهما جنوب وشمال عن أولئك الجيران. القوم كرام ولكن صحبتك لهم حرام. إن الكلب إذا ربض بفنائهم لا يكهر، وإذا ولغ في إنائهم لم يطهر. لو حلت فيهم قينة الحضر لجن جنونها من عيش مذموم، وفرت من الرمل والمزموم.

وإنما عنيت بالمزموم والرمل جملاً يزم ورملاً من السير يذم. وما عنيت مزموم الغناء ورمله، لقد شمر فقير سمله. إنما بيوت البادية كما قال " الفقعسي ":

ويومٍ من النجم مُستوقِدٍ ... يَسُوق إِلى الركبِ نُورَ الظِبَاء

تراها تلوذ بِغيرانِهما ... ويَهجمُها بارِحٌ ذو غمَاء

لجأت بصَحْبِي إلى خافِقٍ ... على نبْعَتيْنِ بأرضٍ فضاء

تنازِعُنا الريحُ أَقطارَه ... وكسْرَيْه يَرمَحُ رَمْحَ الفِلاء

وبيضاءُ تَنْفَلُّ عنها العيون ... تطالعنا من وراء الخِباء

يعني بالبيضاء الشمس، كما قال الآخر:

وبيضاءَ لم تَطبَعْ ولم تدْر ما الخنى ... ترى أَعْيُنَ الفِتيانِ من دونِها خُزْرا

ولو نزل على بيوتهم " أبو عمرو بن العلاء " لشغل عما بين الباء والسين، أو " عمرو بن عثمان " المعروف بسيبويه "، لذهل عما بين الثاء والراء.

وأهل الحضر يرثون بيوتهم أباً عن جد، وأهل البدو يفتقرون في المدة القصيرة إلى بيت مستجد. ولم يبق فيهم أرب لطلاب الفصاحة فيقول قائل: أنزل فيهم فلعلي أسمع مستطرفاً من القول. ولقد تبعتهم تارات فيء الظعن وشاهدتهم إذا أجرهد السير وترجل النهار وتجاوبت الحداة من كل أوب، لا يعرفون غير هذين البيتين يكررونهما تكرير النفس:

يا حُلْوَةَ العَيْنين في النِّقابِ

لا تَحْبِسيني قد مضى أَصحابي

كأن أم الرجزعقيم من غيرهما، وكأن الرجاز من عهد عدنان وقبل ذلك، غفلوا عن الرجز إلى اليوم! وكأن " أبا النجم، الفضل بن قدامة " صدق لما قال:

أَنا أَبو النجمِ إِذا اشتدَّ الحُجَزْ

تَفْنَى إِذا مُتُّ أَفانينُ الرجَزْ

وقد حمل " السيد عزيز الدولة " - أعز الله نصره - رغبته في إيناس الرعية ورأفته بمن ولي من العامة، أن كلف " أسد الدولة " - أدام الله تمكينه - أن يحمل إلى " حلب حرسها الله "، والدته " الرباب " إيثاراً لسكون الأنفس وإعلاماً للسواد الأعظم بالتئام الكلمة والتضافر على صد الأعداء. ولا امتراء في أن " أسد الدولة " - أدام الله تمكينه - أشفق على والدته من " أبي عبادة " على كلمته السينية:

صُنْت نفسي عما يُدَنِّسُ نفسي ... وترفعْتُ عن جَدَا كل جِبْسِ

<<  <   >  >>