الثالث عشر: أن يسعى في مصالح الطلبة وجمع قلوبهم، ومساعدتهم بما تيسر من جاه أو مال عند قدرته على ذلك، وسلامة دينه وعدم ضرره، فإن الله تعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن يسر على معسر يسر الله عليه حسابه يوم القيامة، ولا سيما إذا كان ذلك إعانة على طلب العلم، وإذا غاب بعض الطلبة، أو ملازمي الحلقة زائداً على العادة، سأل عنه فإن لم يخبر عنه بشيء، أرسل إليه وقصد منزله بنفسه، وهو أفضل، فإن كان مريضاً عاده، وإن كان في غمّ خفض عليه، أو في أمر يحتاج إليه فيه أعانه، وإن كان مسافراً يفقد أهله ومن يتعلق به، وسأل عنهم ويعرض لحوائجهم ووصلهم بما أمكن، وإن لم يكن في شيء من ذلك تودد إليه ودعا له. واعلم أن الطالب الصالح أعود على العالم بخير الدنيا والآخرة من أعز الناس عليه، واقرب أهله إليه.
الرابع عشر: أن يتواضع مع الطالب وكل مسترشد، إذا قام بما يجب عليه من حقوَق الله وحقوقه، ويخفض له جناحه، ويلين له جانبه، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم:(واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) . وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا، وما تواضع أحد إلا رفعه الله. وهذا في التواضع، لمطلق الناس، فكيف من له حق الصحبة وحرمة التردد، وصدق التودد، وشرف الطلب، فهم كأولاده. وفي الحديث:" لينوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه ".
وعن الفضل:" أن الله يحب العالم المتواضع ويبغض الجبار، ومن تواضع لله ورثه الله الحكمة ". ويخاطب كلا منهم بكنيته ونحوها، من أحب الأسماء إليه وما فيه تعظيم له وتوَقير. وعن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يكني أصحابه إكراماً لهم. وينبغي أن يرحب بالطلبة إذا لقيهم وعند إقبالهم عليه، ويكرمهم إذا جلسوا إليه ويؤنسهم بسؤاله عن أحوالهم، ويعاملهم بطلاقة الوجه وظهور البشر، وحسن المودة، ويزيد في ذلك لمن يرجى فلاحه ويظهر صلاحه ويضع الحكمة في موضعها.
الفصل الرابع
في آداب المتعلم في نفسه
وهي عشرة أنواع: الأول: أن يطهر قلبه من كل غش، ودنس، وغل، وحسد، وسوء عقيدة وخلق، ليصلح بذلك لقبول العلم وحفظه والاطلاع على دقائق معانيه وحقائق غوامضه، فإن العلم كما قال بعضهم: صلاة السر، وعبادة القلب، وقربة الباطن، فكما لا تصح الصلاة التي هي عبادة الجوارح الظاهرة إلا بطهارة الظاهر من الحدث والخبث، فكذلك لا يصح العلم الذي هو عبادة القلب إلا بطهارته عن خبث الصفات وحدث مساوئ الأخلاق ورديها. وقالوا: يطيب القلب للعلم كما تطيب الأرض للزرع، فإذا طيب العلم ظهرت بركته، ونما كما ينمو زرعها، ويزكو إذا طيبت.
وفي الحديث أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب وقال سهل:" حرام على قلب أن يدخله نوَر وفيه شيء مما يكره الله عز وجل ". الثاني: حسن النية في طلب العلم بأن يقصد به وجه الله عز وجل والعمل به، وإحياء الشريعة، وتنوير قلبه، وتحلية باطنه، والقرب من الله تعالى يوم لقائه، والتعرض لما أعد لأهله من رضوانه، وعظم فضله، قال سفيان الثوري: ما عالجت شيئاً أشد من نيتي، ولا يقصد به أغراض الدنيوية من تحصيل الرياسة، والجاه، والمال، ومباهاة الأقران وتعظيم الناس له، وتصديره في المجالس، ونحو ذلك فليستبدل الأدنى بالذي هو خير.
والعلم عبادة من العبادات وقربة من القرب، فإن خلصت فيه النية قبل وزكا ونمت بركته، وإن قصد به غير وجه الله حبط وضاع وخسرت صفقته، وربما كان ذلك سبباً في فوات تلك المقاصد فلا ينالها فيخيب قصده، ويضيع سعيه.
الثالث: أن يبادر شبابه وأوقات عمره فيصرفها إلى التحصيل، ولا يغتر بخدع التسويف والتأمل فإن كل ساعة تمضي من عمره لا بدل لها ولا عوض عنها. ويقطع ما يقدر على قطعه من العلايق الشاغلة والعوايق المانعة عن تمام الطلب وبذل الاجتهاد وقوة الجد في التحصيل، فإنها كقواطع الطريق. ولذلك استحب السلف التغرب عن الأهل والبعد عن الوطن تقليلاً للشواغل، لأن الفكرة إذا توزعت قصرت عن درك الحقائق، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، ولذلك يقال العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك.