ويروى أن الرشيد سأله هل لك دار؟ فقال: لا. فأعطاه ثلاثة آلاف دينار وقال: اشتر بها داراً، فأخذها ولم ينفقها، فلما أراد الرشيد الشخوص إلى العراق قال لمالك: ينبغي لك أن تخرج معنا فإني عزمت أن أحمل الناس على الموطأ، كما حمل عثمان الناس على القرآن، فقال له: أما حما، الناس على الموَطأ فليس إلى ذلك سبيل، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم افترقوا بعده في الأمصار، فحدثوا فعند أهل كل مصر علم. وقد قال صلى الله عِليه وعلى آله وسلم: اختلاف أمتي رحمة، وأما الخروج معك فلا سبيل إليه، قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد، وهذه دنانيركم كما هي أن شئتم فخذوها، وإن شئتم فدعوها، يعني أنك إنما حملتني على مفارقة المدينة بما اصطنعت لدي فلا أوثر الدنيا على الأخرى، وأخرج الخطيب البغدادي في الجامع عن مقاتل بن صالح الحميدي قال: دخلت على حماد بن سلمة فبينما أنا عنده إذ دق رسول محمد بن سليمان فدخل فسلم وناوله كتابه فقال: أقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن سليمان إلى حماد بن سلمة.
أما بعد فصبحك اللهّ بما صبح به أولياءه وأهل طاعته وقعت مسألة فأتنا نسألك عنها، فقال لي: اقلب الكتاب واكتب: أما بعد وأنت صبحك اللهّ بما صبح به أولياءه وأهل طاعِته، إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحداً، فإن وقعت مسألة فأتنا فاسألنا عما بدا لك، وإن أتيتني فلا تأتني إلا وحدك، ولا تأتني بخيلك ورجالك فلا أنصحك ولا أنصح نفسي، والسلام.
فبينما أنا عنده جالس إذ دق داق الباب فقال: يا صبية اخرجي فانظري من هذا؟ قالت: هذا محمد بن سليمان، قال: قولي له يدخل وحده، فدخل فسلم ثم جلس بين يديه، ثم ابتدأ فقال: مالي إذا نظرت إليك امتلأت رعباً، فقال حماد سمعت ثابتاً البناني يقول: سمعت انس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: أن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء، وإذا أراد أن يكنز به الكنوز هاب من كل شيء. فقال: ما تقول يرحمك الله؟ وذكر مسألته وجوابها، ثم قال وحاجة إليك قال: ما لم تكن رزية في دين، قال: أربعون ألف درهم تأخذها تستعين بها على ما أنت عليه، قال: أرددها على من ظلمته بها قال: والله ما أعطيتك إلا ما ورثته قال: لا حاجة لي فيها، ازوها عني زوى الله عنك أوزارك، قال فغير هذا، قال: هات ما لم يكن رزية في دين، قال: تأخذها فتقسمها، قال: فلعلي أن عدلت في قسمتها أن يقول بعض من لم يرزق منها أنه لم يعدل في قسمتها فيأثم، إزوها عني، زوى الله عنك أوزارك.
وسيأتي في الفصل الخامس ما اتفق لبعض أولاد المهدي العباسي مع شريك.
وأخبار السلف في هذا الباب كثيرة شهيرة. فإن دعت حاجة أو ضرورة إلى شيء من ذلك، واقتضته مصلحة دينية راجحة على مفسدة بذله وحسنت فيه نية صالحة فلا بأس به، وعلى هذا يحمل ما جاء عن بعض السلف من المشي إلى الملوك وولاة الأمر، كالشافعي وغيره، لا على أنهم قصدوا بذلك فضول الأغراض الدنيوية، وكذلك إذا كان المأتي إليه من العلم والزهد في المنزلة العلية والمحل الرفيع، فلا بأس بالتردد إليه لإفادته، فقد كان سفيان الثوري يمشي إلى إبراهيم بن أدهم ويفيده، وكان أبو عبيد يمشي إلى علي بن المديني يسمعه غريب الحديث.
[الرابع:]
أن يتخلق بما حث الشرع عليه من الزهد في الدنيا والتقلل منها بقدر الإمكان، فإن ما يحتاج إليه منها على الوجه المعتدل من القناعة لا يعد من الدنيا، وأقل درجات العالم أن يستقذر المعلق بالدنيا ولا يبالي بفواتها، لأنه أعلم الناس بخسّتها، وفتنتها، وسرعة زوالها، وكثرة عنائها، وقلة غنائها.
وعن الشافعي رحمه الله: لو أوصى لأعقل الناس صرف إلى الزهاد، فمن أحق من العلماء بزيادة العقل وكماله. وقال يحيى بن معاذ: لو كانت الدنيا تبراً يفنى والآخرة خزفاً يبقى، لكان ينبغي للعاقل إيثار الخزف الباقي على التبر الفاني، فكيف والدنيا خزف فانٍ والآخرة تبر باق. وعليه بالسخاء والجود على حسب الوجود.