للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(فَمَا شاقتني ذكرى حبيب ومنزل ... وَلَا راقني للساجعات ترنم)

(وَلَا أطرب الْحَادِي بترجيع لحنه ... وَلَا فاح من نشر الرياض مشمم)

وَلَا يختاج ببالك أَن كلامنا هَذَا بِاللِّسَانِ من غير مُطَابقَة الْجنان فَإِنِّي أقسم بالوفا وَالْكَرم وَالْبَيْت وَالْحرم أَن ظَاهر هَذَا الْأَمر وباطنه سيان وَلَو أطلعت على الضَّمِير لَا زددت علما على مَا نطق بِهِ اللِّسَان وَلَو كنت مائلا إِلَى مَا أَشرت إِلَيْهِ وعولت فِي عبارتك عَلَيْهِ مَا كَانَت أجد مثلك من نديم كَفه كريم وخاطره سليم يفهم الْكَلَام بِالْإِشَارَةِ ويستغني عَن مَفْهُوم الْعبارَة

(إِن كَانَ لَا بدّ من عَيْش وَمن سمر ... فَحَيْثُ آمن من خلى ويأمتني)

نعم إِن مَالَتْ نَفسك إِلَى مجاذبة أَطْرَاف الْآدَاب والمحادثة عَمَّا مضى من وقائع الأحباب فَإنَّك وَالله أعز الإخوان وإنسان عين الخلان مَا رَأينَا مِنْك سوى مَا يسر الْقُلُوب وَيكون عين الْمَقْصُود وَالْمَطْلُوب فَأَنت الْمَقْصُود بقول الشَّاعِر

(بروحي من نادمته فَوَجَدته ... أرق من الشكوى وأصفى من الدمع)

(يوافقني فِي الجدّ والهزل دَائِما ... فَينْظر من عَيْني وَيسمع من سَمْعِي)

هَذَا هُوَ الْجَواب مَعَ الإختصار وَعند مثلكُمْ يقبل الإعتذار انْتهى وَمن غَرِيب مَا اتّفق لَهُ إِنَّه كَانَ فِي مبدأ أمره وَلَا يتكيف وَلَا يَأْكُل من المكيفات شَيْئا حَتَّى قَالَ الشَّاعِر لما رأى إنكباب النَّاس على البرش وَهُوَ قَوْله

(عمّ البلا يَأْكُل البرش فانتفعت ... مخايل النَّاس فِي خلق وأخلاق)

(وَلَو تصوّر هَذَا الدَّهْر فِي رجل ... لأبصرته الورى فِي زِيّ درياق)

ثمَّ ابتلى بِأَكْلِهِ حَتَّى ظهر فِي فعله وهيئته وحركته إِلَّا أَنه لم يُغير ذكاءه ونوادره ولطائفه كَثِيرَة فَمن ذَلِك مَا رَأَيْته بِخَطِّهِ أَنه سُئِلَ عَن الْحبّ هَل هُوَ بِالْكَسْرِ أَو بِالضَّمِّ فَقَالَ هُوَ بِالْكَسْرِ ويستحسن فِيهِ الضَّم وَعَن الجفن أهوَ بِالْكَسْرِ أَو بِالْفَتْح فَقَالَ هُوَ بِالْفَتْح ويستحسن فِيهِ الْكسر وَهَذَانِ الجوابان شبيهان بِجَوَاب الزَّمَخْشَرِيّ وَقد سُئِلَ عَن العثير أهوَ بِالْفَتْح أَو بِالْكَسْرِ فَقَالَ بِالْكَسْرِ وَلَا تفتح فِيهِ الْعين وَسُئِلَ الْمولى أَبُو السُّعُود الْمُفَسّر عَن الخزانة والقصعة فَقَالَ لَا تفتح الخزانة وتكسر الْقَصعَة وَمِمَّا يستظرف من مناسباته أَنه كَانَ يمِيل إِلَى غُلَام يتَخَلَّص برامى فجفاه مرّة ثمَّ جَاءَهُ معتذرا بِإِشَارَة خُفْيَة من جفنيه فأنشده بديهة قَول ابْن القارض

(رمى فَأثْبت سَهْما من لواحظه ... فِي وسط قلبِي فوا شوقي إِلَى الرَّامِي)

<<  <  ج: ص:  >  >>