للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(مرنا بِأَمْر فَإنَّا لَا نخالفه ... وحدّ حدّا فَإنَّا عِنْده نقف)

فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِك إِذْ أقبل بعض خدمَة السلطنة لأخذ ختم الوزارة مِنْهُ وحبسه وَجعله غَرضا لسهام الدَّهْر هُوَ الْجَانِي على نَفسه وَمَعَهُ كتاب سلطاني بمحو حُرُوف الْمَظَالِم وَنسخ وجود كل ظَالِم مَا زبر حرف ولمح طرف وَلما دنا من الْمجْلس الَّذِي هُوَ فِيهِ والنادي الَّذِي يحويه قبل الْكتاب وَبَالغ فِي إجلاله وناوله إِيَّاه وَقد أُوتِيَ كِتَابه بِشمَالِهِ فبادر إِلَى فض خَتمه بعد تقبيله ولثمه فَإِذا هُوَ سطر عنبري كَأَنَّهُ من رماح الْخط فَكَلمهُ روحه قبل جِسْمه وَأبْدى السخط

(جراحات السنان لَهَا التيام ... وَلَا يلتام مَا جرح اللِّسَان)

فأثر تَأْثِير الرماح فِي اتلاف الْأَرْوَاح فأجال فِيهِ النّظر فكاد وَجهه يسفر عَن دم ويصبغ أديمه بعض الْبيَاض بصبغ عندم فَنَهَضَ من مَجْلِسه دهشاً وَمَشى خطوَات مرتعشاً فالتف من الْخَوْف سَاقه بساقه وَكَيف وَيَد الحنف أخذت بأطواقه فَأخذ من ذَلِك الْمقَام وأودع فِي السجْن بعض أَيَّام والدهر يسدد إِلَيْهِ سِهَام الْحمام إِلَى أَن برز الْأَمر بسلب سلب حَيَاته والباس لِبَاس مماته فسارعوا إِلَى السجْن حسب وُرُود الْأَمر فِي أمره وهبوا إِلَيْهِ كَالرِّيحِ لاطفاء سراج عمره وَقد صادفوه فِي ليل نابغي بهيم ووجدوه فِي ليل السَّلِيم غير سليم وَهُوَ مُفْرد قد جمع من الهموم أَنْوَاعهَا وأجناسها وتوحش من الْوحدَة وَهُوَ يذكر من أَيَّام السعد إيناسها لَا يرى أحد على بَابه وَلَا يظْهر حَاجِب من حجابه قد خلا مقَامه عَن خربه وأقفر مَجْلِسه عَن صَحبه مُنْفَردا عَن خدمَة وقارعاً سنّ ندمه وخائفاً من زلَّة قدمه وموقناً بإراقة دَمه وَهُوَ يتحزن فِي بَيت الوحشة وَحده ويتذكر فِي حمى الْإِنْسَان عَهده وَقَلبه من الْحَسْرَة على نيران الغضى ولسان حَاله ينشد متأسفاً على مَا مضى

(قل لجيران الغضى آها على ... طيب عَيْش بالغضى لَو كَانَ داما)

فأوتر لَهُ من الْحمام حنيه وَاتخذ غَرضا لسهام المنيه

(شهى إِلَى النَّاس النَّجَاء من الردى ... وَلَا جيد إِلَّا وَهُوَ فِي فتر خانق)

ومدت حبال الْمَوْت فالتوت على جيده التواء الأراقم وأحاطت بِهِ إحاطة السوار بالمعاصم فغربت شمس حَيَاته واستراح الْملك من كِتَابه سيئاته

(وَإِنَّمَا الْمَرْء حَدِيث بعده ... فَكُن حَدِيثا حسنا لمن وعى)

فَدفن فِي جَانب مدرسته المبنية فِي دَار السلطنة الْعلية وَسبب بنائِهِ لَهَا أَن لَهُ معلما

<<  <  ج: ص:  >  >>