الْمُقَيد وَهُوَ الِاجْتِهَاد فِي مذْهبه والاطلاع على مدارك إِمَامه انْتهى
قلت تَأمل فِي كَلَام ابْن سَلمُون وَكَلَام ابْن الْحَاجِب وَصَاحب التَّوْضِيح وَمَا تقدم عَن ابْن شاش وَأبي بكر الطرطوشي وَابْن عبد البر يظْهر لَك أَن مُرَادهم بالمقلد الَّذِي لَهُ علم يُمَيّز بِهِ بَين الْحق وَالْبَاطِل وَهُوَ الْمُجْتَهد فِي الْمَذْهَب وَهُوَ الَّذِي أحَاط بأصول إِمَامه ومداركه وَهِي أدلته الَّتِي بنى مذْهبه عَلَيْهَا وَلَا شكّ أَن أعظم أَدِلَّة إِمَامه كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله ص وَالْإِجْمَاع وأقوال الصَّحَابَة وَاخْتِلَاف الْعلمَاء وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ مَبْسُوط فِي مَحَله وَلَيْسَ مُرَادهم بالمقلد الْمُقَلّد الْمَحْض الَّذِي يشْتَغل بِحِفْظ المختصرات الْمُجَرَّدَة عَن الدَّلِيل والتوجيه فِي التَّعْلِيل وَلَا يلْتَفت إِلَى الدَّلِيل وَلَا يُمَيّز بَين الْفَرْع الْمُوَافق لأصل إِمَامه وَبَين الْمُخَالف وَلَا بَين الْمَسْأَلَة الْمُوَافقَة لدَلِيل إِمَامه والمخالفة لَهُ وَلَا يلْتَفت إِلَى أصُول إِمَامه وأدلته وَلَا يرفع بهَا راسا بل نِهَايَة دَلِيله أَن يرى الْمَسْأَلَة مَنْصُوصا عَلَيْهَا فِي مختصرات مذْهبه خَالِيَة عَن قيود وخصوصياته وتتماته وَهِي مختصرات معقدات الْعبارَات مولدات مستعجمة لَا يفهمها على الْوَجْه الصَّحِيح لخلوها عَن الْبَيَان والوضوح وجهله بالقواعد الْعَرَبيَّة والمنطقية والأصولية واصطلاحاتهم وَهِي مشحونة بهَا فَمن كَانَ حَاله هَكَذَا لَا يخْتَلف عُلَمَاء السّلف الصَّالح فِي تَحْرِيم تَوليته الْقَضَاء وَعدم نُفُوذ حكمه إِذا حكم وعَلى أَنه لَا يعْمل بفتواه إِذا أفتى وَأما عُلَمَاء الْوَقْت الَّذِي صَار فِيهِ الْمُنكر مَعْرُوفا وَالْمَعْرُوف مُنْكرا فالقضاء وَالْفَتْوَى عِنْدهم بِلبْس الكوربان وَالْفراء ورحم الله الْقَائِل ... فرغ الْقلب عَن مسَائِل نَحْو ... واشتغل بالرطانة التركية
وألبس الكوربان والفرو تفقه ... ذهب الْيَوْم دولة الْعَرَبيَّة
وبفقه أبي حنيفَة فاقرأ ... ذهب الْيَوْم دولة الأثرية ...
إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون
وَيُؤَيّد مَا ذَكرْنَاهُ من أَن المُرَاد بالمقلد من لَهُ علم يُمَيّز بِهِ بَين الْحق وَالْبَاطِل مَا ذكره ابْن رشد فِي أجوبته كَمَا نَقله الْبُرْزُليّ وَابْن سَلمُون عَنهُ
وَنَصه سُئِلَ ابْن رشد فِي الْفَتْوَى وَصفَة الْمُفْتِي على طَريقَة أهل الْمَذْهَب وَمَا هُوَ اللَّازِم فِي مَذْهَب مَالك لمن أَرَادَ أَن يكون مفتيا بمذهبه وَفِي صفة القَاضِي الملزم بِمذهب مَالك وَلَيْسَ فِي الْقطر من بلغ دَرَجَة الْفتيا وَهل تمْضِي أَحْكَامه وفتواه مُطلقًا أَو ترد مُطلقًا أَو يخْتَلف جوابها فَأجَاب ابْن رشد بِمَا حَاصله أَن من اعْتقد مَذْهَب مَالك فقلده بِغَيْر دَلِيل فألزم نَفسه حفظ مُجَرّد أَقْوَاله وأقوال أَصْحَابه فِي مسَائِل الْفِقْه دون التفقه فِي مَعَانِيهَا يُمَيّز الصَّحِيح مِنْهَا والسقيم فَلَيْسَ لَهُ أَن يُفْتِي بِمَا حفظه من الْأَقْوَال إِذْ لَا علم عِنْده بِصِحَّة شَيْء من ذَلِك فَلَا يصلح لفتوى وَلَا لقَضَاء بِمُجَرَّد التَّقْلِيد بِغَيْر علم وَأما من اعْتقد صِحَة مَذْهَب مَالك بِمَا بَان لَهُ من صِحَة الْأَدِلَّة
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute