الَّتِي بنى مذْهبه عَلَيْهَا وَحفظ أَقْوَاله وأقوال أَصْحَابه فِي مسَائِل الْفِقْه وتفقه فِي مَعَانِيهَا حَتَّى ميز الصَّحِيح مِنْهَا الْجَارِي على أُصُوله من جِهَة الدَّلِيل من السقيم الْمُخَالف للدليل غير أَنه لم يبلغ دَرَجَة التَّحْقِيق لعلم الْأُصُول حَتَّى يعرف كَيْفيَّة قِيَاس الْفَرْع على الْأُصُول فَيصح لهَذَا أَن يُفْتِي بِمَا علم دَلِيله من قَول مَالك وَأَصْحَابه بِشَرْط كَون الْمَسْأَلَة مَنْصُوصا عَلَيْهَا بقيودها وَلَيْسَ لَهُ أَن يقيس غير الْمَنْصُوص على الْمَنْصُوص لجهله بكيفية الْقيَاس وشروطها الْمَعْرُوفَة فِي علم الْأُصُول وَأما من كَانَ حَاله كَحال الثَّانِي إِلَّا أَنه بلغ دَرَجَة التَّحْقِيق بِمَعْرِِفَة قِيَاس الْفَرْع على الأَصْل لكَونه عَارِفًا بِأَحْكَام الْقُرْآن من ناسخه ومنسوخه والمفصل من الْمُجْمل وَالْخَاص وَالْعَام وَمَعْرِفَة السّنَن من الْأَحْكَام وتمييز صحيحها من سقيمها وَمَعْرِفَة أَقْوَال الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ من فُقَهَاء الْأَمْصَار وَمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ وَاخْتلفُوا فِيهِ وَيعرف من علم اللِّسَان مَا يعرف بِهِ الْأَحْكَام وَيكون بَصيرًا بِوَجْه الْقيَاس عَارِفًا بِموضع الْأَدِلَّة ومواقعها فَهَذَا الَّذِي تصح الْفَتْوَى لَهُ عُمُوما بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاس على الْأُصُول الَّتِي هِيَ الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة بِالْمَعْنَى الْجَامِع بَينهَا وَبَين النَّازِلَة أَو على مَا قيس عَلَيْهَا إِن عدم الْقيَاس عَلَيْهَا أَو على مَا قيس على مَا قيس عَلَيْهَا وَهَكَذَا
وَالْقِيَاس خَفِي وجلي وَلَا يرجع إِلَى الْخَفي إِلَّا عِنْد عدم الْجَلِيّ وَقد أَتَى مَا ذَكرْنَاهُ على مَا سَأَلت عَنهُ من بَيَان صفة الْمُفْتِي الَّتِي يَنْبَغِي أَن يكون عَلَيْهَا باخْتلَاف الأعصر
وَأما السُّؤَال عَن بَيَان مَا يلْزم فِي مَذْهَب مَالك لمن أَرَادَ أَن يُفْتِي بمذهبه فَإِنَّهُ سُؤال فَاسد إِذْ لَيْسَ أحد بِالْخِيَارِ فِي أَن يُفْتِي على مَذْهَب مَالك أَو على مَذْهَب غَيره من الْعلمَاء بالتقليد بل يلْزمه ذَلِك إِذا قَامَ عِنْده الدَّلِيل على صِحَّته وَلَا يَصح لَهُ إِن لم يقم عِنْده الدَّلِيل على صِحَّته
وَالسُّؤَال عَن الحكم فِي أَمر القَاضِي إِذا كَانَ مُلْتَزما لمَذْهَب الْمَالِكِي وَلَيْسَ فِي قطره من نَالَ دَرَجَة الْفَتْوَى وَلَا هُوَ فِي نَفسه أهل لذَلِك قد مضى الْجَواب عَنهُ فِي حَال الْقسم الأول وَالثَّانِي انْتهى
قلت وَحَاصِل مَا فهمناه من كَلَام ابْن رشد أَنه لَا يجوز لأحد أَن يُفْتِي إِلَّا فِيمَا عرف دَلِيله من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع سَوَاء الْتزم مذهبا معينا أم لَا كَانَ مالكيا أَو لَا وَالله تَعَالَى أعلم
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم بن مُحرز فِي تبصرته عِنْد قَول مَالك فِي الْمُدَوَّنَة إِذا قضى القَاضِي بقضية ثمَّ تبين لَهُ الصَّوَاب فِي غَيرهَا أَنه يرد قَضيته مَا ملخصه إِن خَالف حكم الْكتاب أَو السّنة أَو إِجْمَاع الْأمة فَإِنَّهُ يفْسخ هَذَا الحكم وَلَو لم يفسخه حَتَّى ولى غَيره لَكَانَ على من يَأْتِي بعده أَن يفسخه لِأَن هَذَا الحكم مِمَّا يقطع على بُطْلَانه وَلَا يجوز الْإِقْرَار عَلَيْهِ وَلذَلِك قَالَ عمر بن عبد العزيز مَا فت طِينَة عِنْدِي بِأَهْوَن من نقض قَضَاء قضيت بِهِ فَرَأَيْت الْحق فِي خِلَافه وَسَوَاء حكم بِهَذَا الحكم مُتَعَدِّيا أَو مخطئا وَهَذَا لَا يخْتَلف فِيهِ وَكَذَلِكَ لَو حكم بِحكم ظنا أَو تخمينا من غير