فالمِصْرَاعُ الثَّانِي غيرُ مُشاَكِلٍ للأوَّل وإنْ كاَن كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا قَائماُ بنَفْسِه.
وأحسَنُ الشَّعْرِ مَا يَنتَظِمُ فِيهِ القَوْل انتظاماُ يَتَّسِقُ بِهِ أوَّلُهُ مَعَ آخِرِهِ على مَا يُنَسَّقُهُ، قائِلَهُ، فإنْ قُدَّم بَيْتُ على بَيْتِ دَخَلَهُ الخَلَلُ كَمَا يدخُلُ الرَّسَائِلَ والخطَبَ إِذا نُقِضَ تأليِفُهَا. فإنَّ الشَّعْرَ إِذا أُسَّسَ تأسيسَفُصُولِ الرسائل الْقَائِمَة بأنْفُسِهَا، وكَلِماتِ الحِكْمَةِ المُستَقِلَّةِ بذاتِهَا، والأمْثَالِ السَّائرةِ المَوسُومَةِ باختِصَارها، لم يَحْسُنْ نَظمُهُ بل يَجِبُ أنْ تكونَ القَصِيدةُ كُلُّها كَلِمَةً وَاحِدَة فِي اشتباهِ أوَّلهَا بآخِرِهَا نَسْجاً وحُسْناً وفَصَاحَةً وجَزَالةَ ألفَاظِ ودِقَّةَ مَعَانٍ وصَوَابَ تأليفٍ. وَيكون خُرُوجُ الشَّاعرِ من كُلَّ مَعْنىً يضيفهُ إِلَى غَيرهِ من الْمعَانِي خُروجاً لطِيفاً، على مَا شَرَطناهُ فِي أوَّلِ الْكتاب، حَتَّى تَخْرُجَ القَصِيدةُ كأنَّها مُفْرغةُ إفْراغاً، كالأشعار الَّتِي اسْتَشْهَدْنَا بهَا فِي الجَودةِ والحُسْنِ واسْتِواءِ النَّظْمِ، لَا تناقُضَ فِي مَعَانِيهَا، وَلَا وَهْيَ فِي مَبَانِيها، وَلَا تَكَلُّفَ فِي نَسْجِهَا، تَقْضِي كُلَّ كَلِمَةٍ مَا بَعْدَها، ويكونُ مَا بَعْدَهَا مُتَعلقاً بهَا مُفْتَقراً إِلَيْهَا.
فَإِذا كانَ الشَّعْرُ على هَذَا التَّمثيلِ سَبَقَ السَّامعُ إِلَى قَوَافيهِ قَبلَ أنْ يَنْتَهِىَ إليْها رَاويةِ، وَرُبَّمَا سَبَقَ إِلَى إتْمَامِ مِصْرَاعٍ مِنْهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute