معتقةٍ إذا مُزجتْ أضاءتْ ... وأمكنَ قابساً منها اقتباسُ
كأنَّ يدَ النديمِ يُديرُ منها ... شعاعاً ما يحيطُ عليهِ كاسُ
وقال آخر:
وصافيةٍ كعينِ الديكِ صرفٍ ... تنسّي الشاربينَ لها العقولا
إذا شربَ الفتى منها ثلاثاً ... بغيرِ الماءِ حاولَ أنْ يطولا
أبو تمام:
بمدامةٍ تغدو المُنى لكؤوسِها ... خولاً على السرَّاء والضرَّاءِ
صعُبتْ فراضَ الماءُ سيِّئَ خلقِها ... فتعلَّمتْ من حسنِ خلقِ الماءِ
وكأنَّ زهرتها وبهجةَ كأسِها ... نارٌ ونورٌ قُيِّدا بوعاءِ
آخر:
ومدامةٍ حمراءَ في قارورةٍ ... زرقاءَ تحملها يدٌ بيضاءُ
فالراحُ شمسٌ والحبابُ كواكبٌ ... والكف قطبٌ والإناءُ سماءُ
وقال أبو الهندي:
رضيعُ مدام فارقَ الراحَ روحهُ ... فظلّ عليها مستهلّ المدامعِ
أديرا عليَّ الكأسَ إنِّي فقدتُها ... كما فقدَ المفطومُ درَّ المراضعِ
الوليد بن يزيد، ويحكى أنه لما ولي الخلافة جمع جماعة من أهل بيته وخاصته، فقالوا: ما تريد يا أمير المؤمنين، فقال: أنشدكم أبياتاً قلتها وهي:
أُشهدُ اللهَ والملائكةَ الأب ... رار والعابدينَ أهلَ الصلاحِ
أنَّني اشتهي السماعَ وشرب ال ... راح والعضّ في الخدودِ الملاحِ
واستماعَ الحديثِ والكاعبَ الحس ... ناءَ ترتجُّ في سموط الوشاحِ
السموط: القلائد، والوشاح: سيور تُضقر وترصع وتكون في العنق.
والنديمَ الكريمَ والخادمَ الفا ... رهَ يسعى عليَّ بالأقداحِ
ثم قال: انصرفوا إذا شئتم.
وقال آخر:
العيش عندي في ثلاث أكملت ... لفتًى يريد لذاذة الأيامِ
مال يجود به على ذي حاجةٍ ... ووصال غانيةٍ وشرب مدامِ
فإذا الفتى فقد الثلاثة كلّها ... كان الفتى كبهيمةِ الأنعامِ
وأذكرتني هذه الأبيات أبياتاً أنشدنيها محيي الدين ولم يسم قائلاً، وإن كان لا ذكر للخمر:
فالمنى صحةٌ وأمنٌ ويسرٌ ... وحبيبٌ يرضى ودهرٌ يسرُّ
فإذا ساعد الزمان بهذا ... ثمَّ ضيّعته فما لكَ عذرُ
ومثل هذا التقسيم لأهل العصر:
ما العيش إلاّ خمسة لا سادس ... لهم وإن قصرت بها الأعمارُ
زمن الربيع وشرخ أيام الصبا ... والكأس والمعشوق والدينارُ
لعبد الله بن جدعان ولا يعرف له غيرها:
شربتُ الخمر حتّى قال صحبي ... ألستَ عن السقاةِ بمستفيقِ
وحتّى ما أوسد في مبيتٍ ... أبيتُ به سوى الترب السحيقِ
وحتّى أغلق الحانوت دوني ... وآنستُ الهوانَ من الصديقِ
وقال سليمان بن علي الهاشمي:
فما زلتُ أسقيه وأشربُ فضلَه ... ويشربُ والأوتارُ ذاتُ حنينِ
إلى أنْ رأيتُ السكرَ ميّلَ رأسهُ ... على الكأسِ حتّى ذاقَها بجبينِ
وقال السريّ:
ومستطيلٍ على الصهباءِ باكرَها ... في فتيةٍ باصطباحِ الراحِ حذّاقِ
فكلُّ شيءٍ رآهُ ظنّهُ قدحاً ... وكلُّ شخصٍ رآه ظنَّه الساقي
وقال آخر:
أقبلتْ قرّة عينِ ... في يدي قرة عينِ
قمرٌ يحمل شمساً ... مرحباً بالزائرينِ
مرحباً بالراح والر ... يحان والرائحتينِ
وقال ابن الفارض، أحد شعراء العصر من الزهاد العارفين وأصحاب القلوب المكاشفين:
شربنا على ذكرِ الحبيبِ مدامةً ... سكرنا بها من قبلِ أن يخلق الكرْمُ
لها البدرُ كأسٌ وهي شمس يديرها ... هلالٌ وكم يبدو إذا مزجتْ نجمُ
ولولا شذاها ما اهتديتُ لحانها ... ولولا سناها ما تصوَّرها الوهمُ
ومنها:
ولو عبقتْ بالشرقِ أنفاسُ طيبها ... وفي الغربِ مزكومٌ لعادلهُ الشمُّ
تهذِّبُ أخلاقَ الندامى فيهتدي ... بها لطريقِ العزمِ من لا له عزمُ
يقولون لي صفها فأنتَ بوصفها ... عليمٌ أجل عندي بأوصافها علمُ
صفاءٌ ولا ماءٌ ولا لطفٌ ولا هوًى ... ونورٌ ولا نارٌ وروحٌ ولا جسمُ
وقال محيي الدين، رحمه الله:
اقض حقّ الصبوحِ قبلَ الصباحِ ... واكسُ راحاتنا بكاسات راحِ
واجلُ جنح الدّجى بجذوةِ نارٍ ... قدحتها السقاةُ بالأقداحِ