القرآن كان مرتبًا على هذا الترتيب الكائن في المصحف، فكيف وكل من له أدنى علم بالكتاب وأيسر حظ من معرفته يعلم علمًا يقينًا أنه لم يكن كذلك، ومن شك في هذا -وإن لم يكن مما يشك فيه أهل العلم- رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول، المطلعين على حوادث النبوة، فإنه يثلج صدره وينزل عنه الريب بالنظر في سورة من السور المتوسطة، فضلًا عن المطولة، فإنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة وأوقات متباينة، لا مطابقة بين أسبابها، وما نزل فيها في الترتيب، بل يكفي المقصر أن يعلم أن أول ما نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وبعده {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر} ، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ، وينظر أي موضع هذه الآيات والسور في ترتيب المصحف. وإذا كان الأمر هكذا، فأي معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعًا أنه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزل الله متأخرًا، أو تأخر ما أنزل الله متقدمًا؟! فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدى لذلك من الصحابة، وما أقل نفع مثل هذا وأنزر ثمرته وأحقر فائدته، بل هو عند من يفهم ما يقول، وما يقال له من تضييع الأوقات وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله، ولا على من يقف عليه من الناس.
وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه ورسائله وإنشاءاته، وإلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحًا وأخرى هجاء، وحينًا تشببًا وحينًا رثاء وغير ذلك من الأنواع المتخالفة. فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع فناسب بين فقره ومقاطعه ثم تكلف تكلفًا آخر فناسب بين الخطبة التي خطبها في الحج والخطبة التي خطبها في النكاح ونحو ذلك، وناسب بين الإنشاء الكائن في العزى والإنشاء الكائن في الهنا وما يشابه ذلك، لعد هذا المتصدي لمثل هذا مصابًا في عقله متلاعبًا بأوقاته عابثًا بعمره الذي هو رأس ماله.
وإذا كان مثل هذه بهذه المنزلة وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب وأبكمت فصاحته فصحاء عدنان وقحطان.