لهذا المفهوم, إما استواء يليق بجلال الله, ويختص به فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها, كما يلزم سائر الأجسام. وصار هذا مثل قول الممثل: إذا كان للعالم صانع, فإما أن يكون جوهرا أو عرضا, إذ لا يعقل موجود إلا هذا وقوله: إذا كان مستويا على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير والفلك, إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا. فإن كليهما مثل وكليهما عطل حقيقة ما وصف الله به, وامتاز الأول بتعطيل كل اسم للاستواء الحقيقي, وامتاز الثاني بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين.
والقول الفصل هو ما عليه الأمة الوسط, من إن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ويختص به. فكما أنه سبحانه موصوف بأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير, وأنه سميع بصير, ونحو ذلك, ولا يجوز أن يثبت للعلم والقدرة خصائص الأغراض التي لعلم المخلوقين وقدرتهم, فكذلك هو سبحانه فوق العرش, ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق وملزوماتها.
واعلم أنه ليس في العقل الصريح, ولا في شيء من النقل الصحيح, ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلا".
وأقول: أما النقل الصحيح, فهو موضوع مختصر كتاب الحافظ الذهبي الذي بين يديك, فستجد فيه ما يجعلك على مثل اليقين مؤمنا بأن الآيات القرآنية, والأحاديث النبوية والآثار السلفية متفقة كلها على أن الله تعالى فوق عرشه بذاته, بائنا من خلقه, وهو معهم بعلمه. وسترى إنشاء الله تعالى أن أئمة المذاهب المتبعة وأتباعهم الأولين ومن سار على نهجهم من التابعين لهم حتى أواخر القرن السادس من الهجرة قد اتفقت فتاواهم وكلماتهم على إثبات الفوقية لله تعالى على عرشه وخلقه وعلى كل مكان وأن ذلك كما أنه متواتر عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم "١" فهو مجمع عليه من السالفين والأئمة الماضين من المحدثين والفقهاء
١ صرح بتواتر ذلك الحافظ الذهبي في "صفات رب العالمين" "١/ ١٧٥/ ٢ ".