للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ووقتٍ وفى بالدهر لي عند واحدٍ ... وفى لي بأهليه وزاد كثيرا

يقول: رب وقت اجتمع لي فيه من اللذات والسرور مثل ما في جميع الدهر عند فردٍ في عصره، وهذا الواحد اجتمع له من الفضائل مثل ما في جميع الخلق بل أزيد كثيراً.

شربت على استحسان ضوء جبينه ... وزهرٍ ترى للماء فيه خريرا

يقول: شربت مستحسناً ضوء جبينه، في بستانٍ ذي زهر. وماءٍ ترى له خريراً. والهاء في فيه للزهر.

غد الناس مثليهم به، لا عدمته ... وأصبح دهري في ذراه دهورا

مثليهم: نصب على الحال، ويجوز أن يكون خبر غدا من أخوات كان.

يقول: فيه من الفضائل مثل ما في جميع الناس، فهو قائم مقامهم فصار الناس مثليهم، واجتنيت أنا عنده من اللذات ما يجتنيه أهل الدهور، فقام دهري مقام دهور كثيرة.

يصف مجلسين للأمير وذكر أبو محمد انزواء أحد المجلسين عن الآخر ليرى من كل واحد منهما ما لا يرى من صاحبه فقال له:

المجلسان على التمييز بينهما ... مقابلان ولكن أحسنا الأدبا

كان المجلسان كل واحد منهما في الجهة التي تقابل الآخر، منحرفاً عنه. فهو يقول: إنهما متقابلان في الحقيقة، ومن حيث الحسن والبهاء، وإن كانا قد ميز بينهما. وإنما انحراف أحدهما عن الآخر؛ لحسن الأدب! لأن عادة الغلام أن يقف ناحيةً، حيث لا يراه السيد إلا عند الحاجة إليه.

وقيل: إن ما يجري في أحدهما لا يعرفه أهل المجلس الآخر.

إذا صعدت إلى ذا، مال ذا رهباً ... وإن صعدت إلى ذا، مال ذا رغبا

وروى في المصراعين رهبا.

يقول: إذا صعدت إلى أحد المجلسين انحرف الآخر عن مقابلة الآخر من مقابلة وجهك، هيبةً لك وخوفاً من سلطانك! وروى في الثاني: رعباً، ورغباً بالغين المعجمة، فالمعنى على هذا: إن أحدهما كان للسطوة والنكال، والآخر للرغبة والنوال، فإذا صعد إلى أحدهما خشي أن يميل إليه بسطواته، فإذا صعد إلى الآخر مال إليه رغبة فيما عوده به من نواله وهباته.

فلم يهابك ما لا حس يردعه؟ ... إني لأبصر من فعليهما عجبا

يردعه: أي يزجره.

يقول: كيف يخاف منك من ما لا حس له يزجره؟! وذلك عجب منهما، فإذا كان ذلك حالهما. فالعقلاء أولى أن يخافوا منك.

وأقبل الليل وهما في بستان فقال يمدحه:

زال النهار ونورٌ منك يوهمنا ... أن لم يزل ولجنح الليل إجنان

جنح الليل: قطعة من أوله، وقيل: نصفه الأخير. كأنه جنح إلى الذهاب وإجنان الليل: تغطية الأرض بالظلمة.

يقول: إن النهار قد زال، ونور وجهك في إشراقه يوهمنا أن النهار باقٍ بعد والليل قد أظلم بقطعه.

فإن يكن طلب البستان يمسكنا ... فرح فكل مكانٍ منك بستان

يقول: إن كانت إقامتك بالبستان هذا رغبة منه فارجع إلى منزلك فإن كل مكان تحله فهو بستان؛ لما فيك من المحاسن والألطاف.

فلما استقل في القبة نظر إلى السحاب فقال يمدحه:

تعرض لي السحاب وقد قفلنا ... فقلت: إليك إن معي السحابا

يقول: لما انصرفنا من البستان إلى المنزل تعرض لنا السحاب، وهم بالمطر علينا. فقلت: أمسك عن مطرك، فإن معي السحاب، وهو الممدوح.

وقوله: إليك. أي أمسك عني.

فشم في القبة الملك الرجى ... فأمسك بعد ما عزم انسكابا

شم: أي انظر، من قولك شمت البرق أشيمه شيماً: إذا نظرت إليه.

يقول: قلت للسحاب انظر إلى الملك المرجى في القبة، إن شككت في قولي، فإنه أكرم منك! فلما نظر إليه السحاب علم صدق قولي فأمسك بعد أن عزم على أن يسكب خجلاً واستحياءً.

وكره الشرب فلما كثر البخور وارتفعت رائحة الند قال يصف مجلس الشراب عند الأمير:

أنشر الكباء ووجه الأمير ... وحسن الغناء وصافي الخمور!

الكباء: العود الذي يتبخر به. ونشره: رائحته المنتشرة منه.

يقول لنفسه: هذه الأشياء مجتمعة في هذا المجلس ولا أشرب؟!

فداو خماري بشربي لها ... فإني سكرت بشرب السرور

يقول: شربت خمر السرور فسكرت، فهات الخمر لأداوي بها خماري! وهو من قول الأعشى:

وكأسٍ شربت على لذةٍ ... وأخرى تداويت منها بها

وأشار إليه بعض الطالبين بمسك فقال، وكان أبو محمدٍ حاضراً:

الطيب مما غنيت عنه ... كفى بقرب الأمير طيبا

يبني به ربنا المعالي ... كما بكم يغفر الذنوبا

<<  <   >  >>