للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

يقول: هذا البازي إذا نظر إلى جانبه كسته مقلته الخلوقية شعاعاً على منكبه يعني: أن عينه من صفائها وصقالها، يقع شعاعها على منكب البازي، كما يقع شعاع المرآة على الحائط.

ولما نزل أبوالطيب الرملة سنة ستٍّ وأربعين وثلاث مئة يريد مصر، دعاه أبو محمد فأكل معه وشرب، وخلع عليه وحمله على فرس جوادٍ بسرج ولجام، محليين حلية ثقيلة وقلده سيفاً محلي، وعاتبه على تركه مدحه فقال:

ترك مدحيك كالهجاء لنفسي ... وقليلٌ لك المديح الكثير

يقول: تركي مدحك هجاء لنفسي! لأني كنت قد كفرت نعمك وكفران النعم من أعظم الهجاء، والمديح الكثير قليل لك بالنسبة إلى قدرك.

غير أني تركت مقتضب الشع ... ر لأمرس مثلي به معذور

اقتضاب الشعر: ارتجاله بديهة.

يقول: إني تركت ارتجال الشعر لا روي فيه؛ لأني على ظهر السفر، وهذا عذر بين، ويجوز أن يكون ذلك لأنه لا يمكنه استيعاب مدائحه على حد الارتجال، وقيل: كان عذره واضحاً عنده، فاكتفى بما عنده من ذلك.

وسجاياك مادحاتك لا لفظي ... وجودٌ على كلامي يغير

روى: لا شعري، ولا لفظي.

يقول: ما فيك من خلائقك الكريمة يقوم مقام شعري، لأن جودك يغير على كلامي، فليس يمكنني أن أحيط بجودك، فكلما قلت شيئاً غلب عليه جودك فأغار عليه.

فسقى الله من أحب بكفي ... ك وأسقاك أيهذا الأمير

يقول: سقى الله من أحبه على يديك، فنوالهما أنفع من مطر السحاب! وسقاك الله أيها الأمير.

فلما أراد أن يرحل قال يودع الأمير ابن طغج:

ماذا الوداع وداع الوامق الكمد ... هذا الوداع وداع الروح للجسد

الكمد: المغموم. والكمد: الغم.

يقول: وداعي لهذا الأمير ليس يشبه وداع عاشق لحبيبه ولكنه وداع الروح للجسد. أي هو موته.

إذا السحاب زفته الريح مرتفعاً ... فلا عدا الرملة البيضاء من بلد

زفته: ساقته. والرملة: مدينة بالشام بقرب بيت المقدس.

يقول: إذا ساقت الريح السحاب، فلا تجاوز هذه البلدة. دعاء لها بالسقيا؛ لأن الممدوح كان فيها.

ويا فراق الأمير الرحب منزله ... إن أنت فارقتنا يوماً فلا تعد

أي: إن جمع الله بيننا بعد هذا الفراق، فلا فراق بعده.

قال يمدح طاهر بن الحسين العلوي وحدث أبو عمر عبد العزيز بن الحسن السلمي قال: سألت محمد بن القاسم المعروف بالصوفي: كيف كان سبب امتداح أبي الطيب لأبي القاسم طاهر بن الحسين بن طاهر العلوي؟ فحدثني أن الأمير أبا محمد لم يزل يسأل أبا الطيب في كل ليلة من شهر رمضان، إذا اجتمعنا عنده للإفطار، أن يخص أبا القاسم طاهر من شعره بقصيدة يمدحه فيها. ويذكر أنه اشتهى ذلك. ولم يزل أبو الطيب يمتنع ويقول: ما قصدت غير الأمير ولا أمتدح سواه، فقال له الأمير: قد كنت عزمت على أن أسألك في قصيدة أخرى تعملها، فاجعلها في أبي القاسم. وضمن عنه مئات دنانير، فأجابه إلى ذلك.

قال محمد بن القاسم: فمضيت أنا والمطلبي برسالة طاهر لوعد أبي الطيب، حتى دخلنا إلى بيته، فركب معنا ودخلنا على طاهر وعنده جماعة من أهل بيته، وأشراف، وكتاب فلما أقبل أبو الطيب نزل أبو القاسم طاهر عن سريره وتلقاه بعيداً من مكانه مسلماً عليه، ثم أخذ بيده فأجلسه في المرتبة التي كان فيها قاعداً، وجلس بين يديه، فتحدث معه طويلاً ثم أنشده، فخلع عليه للوقت خلعة نفيسة.

قال عبد العزيز: وحدثني أبو علي بن القاسم الكاتب. قال: كنت حاضراً لهذا المجلس، وهو كما حدثك به أبو بكر الصوفي.

ثم قال لي: اعلم أني ما رأيت ولا سمعت في خبر أن شاعراً أجلس الممدوح بين يديه مستمعاً لمدحه غير أبي الطيب، فإني رأيت طاهراً تلقاه، وفعل كما ذكرنا فأنشده المتنبي:

أعيدوا صباحي فهو عند الكواعب ... وردوا رقادي فهو لحظ الحبائب

يقول: للذين ساروا بالجواري: أعيدوا علي الصبح، فقد ارتحل عني برحيلكم، أي أظلمت الدنيا علي لبعدكم! فردوا إلي النوم، فقد أخذتموه معكم. ومعناه: أعيدوا الكواعب ليرجع إلي صباحي، لأن الدنيا أظلمت على بعدهن! فهن صباحي الذي تزول به هذه الظلمة، وردوا أحبائي ليرجع إلي نومي؛ لأنه ارتحل برحيلهن.

وقيل: أراد طال ليلي فلو أعدتم إلي الكواعب والحبائب لقصر وعاد صبحي.

وقوله: لحظ الحبائب معناه: رقادي رؤية أحبائي ومشاهدتهن.

<<  <   >  >>