للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

يقول: إن الصياقل قد أخلصوها صقالاً، وإنها بحدة شفارها قطعت أيدي صياقلها عند صقلها، وتجربة حدها، فكيف يكون حالها مع غيرهم؟!

يرى الجبناء أن العجز عقلٌ ... وتلك خديعة الطبع اللئيم

يقول: إن الجبان يخدعه لؤم طبعه، ويصور له أن الاحتراز من الحرب رأي وعقل، وليس كما ظن، وإنما خدعه لؤم طبعه عما في الشجاعة من العز بالفخر بها.

وكل شجاعةٍ في المرء تغني ... ولا مثل الشجاعة في الحكيم

يقول: الشجاعة محمودة، وتغني صاحبها وتنفعه، خاصة إذا كان صاحبها حكيماً عاقلاً مدبراً؛ لأنه يستعملها في وقتها ومحلها.

وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم

يقول: إن الشجاعة من الأخلاق الكريمة، وإنما يعيبها الجبان؛ لضعف قلبه، كما أن كثيراً من الناس يعيب الأشياء التي لا يلحقها عيب، لجهله بها. وقيل: إنه منقطع، أي كم إنسانٍ يعيب قولاً صحيحاً لا آفة فيه، وإنما يكون من فهم سقيم، حيث لا يتصور جودة الكلام وصحته.

ولكن تأخذ الآذان منه ... على قدر القرائح والعلوم

يقول: إن الآذان تدرك الكلام فيعلمه الإنسان، ويأخذ منه بقدر خاطره وعلمه، ويتصوره على حسب قريحته.

وقال يهجو ابن كيغلغ وسار أبو الطيب من الرملة يريد أنطاكية سنة ستٍّ وثلاثين وثلاث مئة، فنزل بطرابلس، وبها إسحاق بن إبراهيم بن كيغلغ، وكان رجلاً جاهلاً، وكان يجالسه ثلاثة من بني حيدرة، وكان بين أبي الطيب وبين أبيهم عداوة قديمة. فقالوا له: ما يجب أن يتجاوزك ولم يمتدحك، وإنما يترك مدحك استصغاراً لك، وجعلوا يغرونه به، فراسله إسحاق وسأله أن يمدحه، فاحتج أبو الطيب بيمينٍ عليه: أنه لا يمتدح أحداً إلى مدة حدها، فعاقه عن سفره. ينتظر انقضاء تلك المدة، وأخذ عليه الطرق وصبطها، ومات الثلاثة الذين كانوا يغرونه به في مدة أربعين يوماًن فقال أبو الطيب يهجوه وهو بطرابلس.

قال: ولو فارقته قبل قولها لم أقلها أنفة من اللفظ بما فيها قال: وأملاها على من يثق به، فلما ذاب الثلج وخف عن لبنان، خرج كأنه يسير فرسه، وسار إلى دمشق فأتبعه ابن كيغلغ خيلاً ورجلاً، فأعجزهم وظهرت القصيدة واشتهرت وهي:

لهوى القلوب سريرةٌ لا تعلم ... عرضاً نظرت وخلت أني أسلم

قوله: عرضاً أي من غير قصد. يقول: للهوى سر لا يعرف لطفه ودقته، فلا يوقف عليه إلا بعد ابتلاء به. ونظرت من غير قصد وما ظننت أن الظن يوقعني في حبائل الهوى، بل قدرت أني أسلم ولا أهلك فخاب الظن الذي ظننته.

يا أخت معتنق الفوارس في الوغى ... لأخوك ثم أرق منك وأرحم

هذا فيه وجهان: أحدهما: أنه شبب بامرأة، ومدح أخاها بالشجاعة. إشارة إلى أنها ممتنعة لا يقدر على الوصول إليها. يقول: يا أخت الأخ الذي يخالط الأقران في الحرب بشجاعته، إن أخاك في الحرب إذا لقي عدواً أرحم منك وأرق على قربه منك علي، فأنت قد فعلت بالمحب بقلة رحمتك له، ما لا يفعله أخوك في الحرب حرب الأقران.

والوجه الثاني: أنه يهجو أخا المرأة المشبب بها وفيه قولان: أحدهما: أنه يتهمه بإتيان أخته! ومعناه: أن أخاك أرق منك، ثم إن عند خلوته بك، أرحم منك على العاشق.

والقول الثاني: أنه يرمي أخاها بالجبن وضعف القلب؛ لأنه مع وصفه بأنه معتنق الفوارس في الوغى، فإنه أرق قلباً من هذه المرأة مع رقة قلوب النساء، فمن زادت رقته على رقة قلوبهن فهو في نهاية الضعف وقوله: ثم إشارة إلى موضع الحرب، أي أنه أرق قلباً من النساء في الضعف.

يرنو إليك مع العفاف وعنده ... أن المجوس تصيب فيما تحكم

يقول: إن أاك ينظر إليك مع العفاف لأنه يرى رأي المجوس! وهذا قول ابن جنى.

وقوله: مع العفاف يمنع من ذلك، فإنه ذكر ما لا يصح، ويمكن أن يقال: إنه صحيح ومعناه: أنه على رأي المجوس، لأن المجوسي يرى إتيان أخته من العفاف، لأنه يستبيحه! فهو صحيح من هذا الوجه هذا على الوجه الثاني.

وأما على الوجه الأول: فمعناه أنك قد فتنت أخاك بحسنك فهو ينظر إليك ويتمنى أن يكون دينه دين المجوس، وأنك محللة له، فكأنه يرى رأى المجوس في نكاح الأخوات ومثله لأبي تمام:

بأبي من إذا رآها أبوها ... شغفاً قال: ليت أنا مجوس

راعتك رائعة البياض بعارضي ... ولو أنها الأولى لراع الأسحم

<<  <   >  >>