وتوفيت أخت سيف الدولة الكبرى، بميافارقين من ديار بكر لثلاث بقين من جمادى الآخرة من سنة اثنتين وخمسين وثلاث مئة، وورد الخبر إلى العراق فقال أبو الطيب يرثيها في شعبان. وأملاها لثلاث خلون من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وثلاث مئة:
يا أخت خير أخٍ، يا بنت خير أبٍ، ... كنايةً بهما عن أشرف النّسب
كنيت الشيء وكنيت عنه: إذا تركت التصريح به، وعبرت بلفظ آخر يؤدي معناه. ونصب كناية على المصدر.
المعنى: أراد أن يقول: يا أخت سيف الدولة، ويا بنت أبي الهيجاء، فكنى بذلك عن قوله: يا أخت خير أخ يا بنت خير أب وأراد التصريح باسمها فعبر عنه بهذه العبارة، ثم قال: كناية بهما.
يعني: إذا قلت ذلك علم أن نسبها أشرف النسب، والغرض انتسابها إليهما لا يخص الأب وحده، وجعل كونها أختاً له: نسباً لها وهذا تعظيم شأن سيف الدولة.
أجلّ قدرك أن تسمى مؤبّنةً ... ومن يصفك فقد سمّاك للعرب
روى: أن تسمي وأن تدني وهما متقاربان. يقال: أسميته بكذا وسميته به، وقد جمع بينهما في البيت. والتأبين: مدح الميت. ومؤبنة: نصب على الحال.
يقول: أجل قدرك أن أذكر اسمك في مرثيتك، ولكني إذا وصفت ما فيك من المحاسن والمناقب، عرفتك العرب، لأن ذلك لا يوجد في غيرك.
وقيل اراد: أني أصفك بقولي يا أخت خير أخ، يا بنت خير أب، وهذه صفة يقع بها التمييز بينك وبين سائر النساء؛ لأن هذه الصفة ليست إلا لك خاصة. وإنما أعرض عن تسميتها؛ لأن تسمية النساء من قلة المروءة ما وجد إلى تعريفها - بغير التسمية - سبيلا، أو لأجل أن سيف الدولة ربما لحقته الغيرة إذا سمع التصريح باسمها، أو لأجل أنه أراد أن يعد محاسنها، والتعريف بالأوصاف المحمودة أجل من ذكر اللقب المحض الذي لا مدح تحته. ومثله لأبي نواس:
فهي إذا سمّيت فقد وصفت ... فيجمع الاسم معنيين معا
وأبو الطيب - رحمة الله - قلده.
لا يملك الطّرب المحزون منطقه ... ودمعه وهما في قبضة الطّرب
الطرب: خفة تصيب الإنسان من فرط الفرح، أو الجزع. والطرب: اسم فاعل منه.
يقول: الرجل الذي غلب الحزن على قلبه لا يملك منطقه ودمعه؛ لأنهما في قبضة الطرب، فهو مغلوب لا فعل له في ذلك.
غدرت يا موت كم أفنيت من عددٍ ... بمن أصبت وكم أسكتّ من لجب؟؟!
اللجب: الصوت في الحرب.
يقول: يا موت غدرت بهذه المتوفاة: بعد أن كنت تصل بها إلى إفناء الأعداء: الذين هم الكفار، وإلى إسكات لجبهم، لأنها تجهز الجيش، وتنفق في سبيل الله تعالى.
وقيل: إن المعنى أنك أفنيت بإفنائها كثيراً من الناس، وأسكت أصواتهم، لأنهم ماتوا بموتها، لأن حياتهم كانت بها. وهذا مثل قول الآخر:
ولكنّ الرّزيّة فقد حيٍّ ... يموت بموته بشرٌ كثير
ومثله قول الآخر:
فما كان قيسٌ هلكه هلك آدم ... ولكنّه بنيان قومٍ تهدّما
وكم صحبت أخاها في منازلةٍ ... وكم سألت فلم يبخل ولم تخب
يقول: يا موت كم صحبت أخاها في الحروب؟! وكم سألته أن يمكنك من تناول الأبطال فلم يبخل؟! هو بما سألت، ولم تعد خائباً في سؤالك عنه، ثم غدرته ونقضت ما كان بينكما من المواصلة.
طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ ... فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
خبر: مرفوع بجاءني. وفي طوى ضمير على شريطة التفسير. وفي قول الكوفيين مرفوع بالفعل الأول وجاءني مسند إلى ضميره: أي حتى جاني هو. والجزيرة: مدينة معروفة على شط دجلة بين الموصل وميافارقين.
يقول: جاءني خبر موتها من الشام وقطع الجزيرة حتى وصل إلي، فلما سمعته التجأت إلى التعلل بالآمال الكاذبة فقلت: لعله يكون كذباً، فلم ينفعني ذلك.
حتّى إذا لم يدع لي صدقه أملاً ... شرقت بالدّمع حتّى كاد يشرق بي
يقول: فلما تحققت صدقه، ولم يبق فيه موضع أمل بكيت جزعاً، حتى سار دمعي وجرى في حلقي وشرقت، ثم زاد وفاض، حتى غمرني، فصرت في وسطه كالجرعة من الماء في الحلق.
تعثّرت به في الأفواه ألسنها ... والبرد في الطّرق والأقلام في الكتب
حذف الياء من به ضرورة، واكتفى بالكسرة عنها. وروى: تعثرت بك فيكون عدولا عن الغائبة إلى مخاطبة الخبر، والهاء في به تعود إلى الخبر.