يقول: لعظم هذا الخبر تعثرت الألسن في الأفواه، فلم تقدر على أن تنطق به إذا أرادت الإخبار عنه، وكذلك البرد الذي تحملت هذا الخبر تعثرت في الطرق، وتعثرت الأقلام في الكتب، فلم تقدر أن تكتب هذا الخبر.
كأنّ فعلةً لم تملأ مواكبها ... ديار بكرٍ ولم تخلع ولم تهب
لما لم يصرح باسمها كنى عنه، وذكر وزنه من الفعل وكان اسمها خولة وديار بكر: ما بين الشام والعراق.
يقول: إنها ملأت ديار بكر بجيوشها، ووهبت الأموال، وخلعت، ثم زال ذلك كله بموتها، فكأنها لم تفعل شيئاً من ذلك.
ولم تردّ حياةً بعد توليةٍ ... ولم تغث داعياً بالويل والحربٍ
يقو: كأنها لم ترد حياةً على رجل بعد ما ولت عنه حياته. يعني: رجلاً أشرف على الهلاك، فأزالت عنه هلاكه، فكأنها ردت إليه حياته، وكأنها لم تغث ملهوفاً يقول: يا ويلاه ويا حرباه! يعني: أنها كانت تفعل ذلك، فبطل ذلك بموتها.
أرى العراق طويل اللّيل مذ نعيت ... فكيف ليل فتى الفتيان في حلب؟!
يقول: لما أخبرت بموتها طال علي الليل وأنا بالعراق لما دخل علي من الأسف، فكيف حال أخيها وهو في حلب؟! يعني: إذا انت هذه حالي في طول الليل فليله أطول.
يظنّ أنّ فؤادي غير ملتهبٍ ... وأنّ دمع جفوني غير منسكب
أي: ايظن سيف الدولة أن فؤادي غير محترق بالحزن، وأن دمعي غير سائل على فقدها؟!
بلى وحرمة من كانت مراعيةً ... لحرمة المجد والقصّاد والأدب
يقول: ليس الأمر كما يظن أني لم أتأسف على فقدها، بل تأسفت على فقدها ثم حلف بحرمتها فقال: وحرمة هذه المرأة التي كانت مراعية لحرمة المجد وحقوق القصاد، وحق الأدب، أن فؤادي ملتهب ودمعي منسكب لعموم هذه المصيبة القريب والبعيد.
ومن مضت غير موروثٍ خلائقها ... وإن مضت يدها موروثة النّشب
النشب: المال ومن في موضع الخبر، عطفاً على قوله: من كانت.
يقول: وحرمة من مضت، وخلائقها غير موروثة؛ لأنها لا توجد إلا فيها، وإن مضت هي موروثة المال، وأضاف النشب إلى اليد، لأن الكسب والتصرف في الغالب يقع بها. يعني إن لم تورث خلائقها فقد ورث مالها. وقد روى: مردودة النشب.
يعني: أن سماحتها التي ورثتها عن آبائها ردت عليها حياتها، حسن الذكر كما قال:
ردّت صنائعه إليه حياته
وغير موروثة نصب على الحال.
وهمّها في العلا والملك ناشئةٍ ... وهمّ أترابها في اللهو واللّعب
الأتراب: جمع ترب وهو اللدة وأكثر ما يكون للمؤنث.
يقول: كان همها اكتساب المعالي وهي ناشئة حديثة السن، وهم أمثالها ومن كانت في سنها: اللهو واللعب. يعني: وحرمة من كانت كذلك.
يعلمن حين تحيّا حسن مبسمها ... وليس يعلم إلاّ الله بالشّنب
المبسم: الثغر. والشنب: برد الريق، وقيل أراد بالشنب ها هنا: الكناية عن المال.
والمعنى: أن أترابها يعلمن حسن مبسمها حين يجئنه؛ لأنها كانت تستعمل البشر إذا حييت، وذلك عنوان العطية، فهن يعرفن هذا القدر والله يعلم ما يتبع التبسم من المال، فكنى عن ذلك بالشنب حيث ذكر المبسم.
وقيل: أراد بالشنب المعني الحقيقي. يعني: أنهن يعرفن حسن المبسم فقط، وأما طيب ريقها وبرده فلا يعلمه أحد إلا الله تعالى، ولا تعلمه النساء فضلا عن الرجال ومثله قول جميل:
لا والذي تسجد الجباه له ... ما لي بما دون ثوبها خبر
ولا بفينا ولا هممت به ... ما ان إلاّ الحديث والنّظر
ومثله لبشار:
يا أطيب النّاس ريقاً غير مختبرٍ ... لا شهادة أطراف المساويك
ولغيره:
يخبّرني المسواك عن طيب ثغرها ... وليس بها إلا السّؤال بذي خبر
مسرّةٌ في قلوب الطّيب مفرقها ... وحسرةٌ في قلوب البيض واليلب
اليلب: ترسة تعمل من جلود الإبل، وقيل جلود تضفر ويضم بعضها إلى بعض وتلبس على الرأس مثل البيضة، وقيل: تلبس إذا لم يكن لهم درع وقيل تحت الجواشن، وقيل تحت البيض.
يقول: إن الطيب يسر بحصوله في مفرقها؛ لأنها كانت تستعمل الطيب، والبيض واليلب يتحسران عليها ويحسدان الطيب؛ لأنها لا تلبسهما لكونها امرأة.
إذا رأى ورآها رأس لابسه ... رأى المقانع أعلى منه في الرّتب