وقاسمني دهري بنيّ بشطرهم ... فلمّا تقضّى شطره عاد في شطري
وقوله: إنا لنغفل مثل معناه: إنا غافلون عن حوادث الدهر، وهو في طلبنا، حتى يأتينا فجأة، ومثله للنمر بن تولب:
تدارك ما قبل الشّباب وبعده ... حوادث أيّام تمرّ وأغفل
ما كان أقصر وقتاً كان بينهما ... كأنّه الوقت بين الورد والقرب
تقرب الليلة، ترد الماء في صبيحتها.
المعنى: إن الوقت بينهما كان قريباً حتى كأن الصغيرة ماتت عشية، والكبرى ماتت في صبيحة تلك العشية، وكأن ما بينهما قدر ما بين القرب والورد من الوقت.
جزاك ربّك بالأحزان مغفرةً ... فحزن كلّ أخي حزنٍ أخو الغضب
يقول: جزاك الله تعالى مغفرة بهذا الحزن الذي أصابك، فهو نوع من الذنب. قال الله تعالى: " لكيلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ " و: " لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ ما أصَابَكُمْ " والحزن: أخو الغضب؛ لأنهما من أصل واحد، وإنما يفترقان من جهة الرتبة: فالحزن: هو سخط فعل من هو فوقك، والغضب: سخط فعل من هو دونك؛ لأنه غضب لما نال منه الدهر.
وأنتم نفرٌ تسخو نفوسكم ... بما يهبن ولا يسخون بالسّلب
يقول بياناً لقوله: إن الحزن أخو الغضب: إن حزنك إنما هو غضب على الدهر وأنفة من أن الدهر قدر على غضبك على أختك، لأنك وقومك تسخون بالمال عند السؤال، ولا تعطون عند المقابلة والاستيلاء.
حللتم من ملوك النّاس كلّهم ... محلّ سمر القنا من سائر القصب
يقول فضلكم على سائر الملوك، فضل الرماح على ما سواها من القصب.
فلا تنلك اللّيالي إنّ أيديها ... إذا ضربن كسرن النّبع بالغرب
النبع: شجر صلب تتخذ منه القسي، ومنبته في رءوس الجبال، وما ينبت في سفح الجبال فهو: الشريان وما كان في الحضيض فهو: الشوحط وجميعها شجرتها واحدة واختلفت أسماؤها لاختلاف منابتها والغرب: شجر ضعيف يشبه شجر الخلاف.
يقول: لا أصابتك حوادث الدهر، فإن أحداً لا يقدر على دفعها، فمتى شاءت الليالي قهرت القوى بالضعيف، والعزيز بالذليل، والأصيل بالدخيل، وضرب النبع والغرب مثلا.
ولا يعنّ عدواً أنت قاهره ... فإنّهنّ يصدن الصّقر بالخرب
الخرب: ذكر الحباري وجمعه خربان.
يقول: لا أعانت الليالي عدواً لك مقهورا في يدك، ذليلا في جنبك؛ فإنها إن أعانته عليك قهرك، وإن كان أضعف منك شوكةً فإنها لو أرادت أن تصيد الصقر - مع قوته - بالخرب - مع ضعفه - لامكنها ذلك. وروى: ولا يعز عدو أي لا عز عدوك وروى: ولا يعز عدواً أي الليالي لا أعزت عدواً.
وإنه سررن بمحبوبٍ، فجعن به ... وقد أتينك في الحالين بالعجب
يقول: إن الليالي تجمع بين المسرة والمصيبة، وهما ضدان وهذا من العجب: وقيل: العجب أنها سرتك بحياة المرثية مسرةً عظيمة، وفجعتك بموتها فجيعة عظيمة.
وقيل: إنها سرت من غير علة، وفجعت من غير علة.
وربّما احتسب الإنسان غايتها ... وفاجأته بأمرٍ غير محتسب
غايتها: أي غاية الليالي.
يقول: ربما حسب الإنسان لنفسه غاية أحداث الليالي، وأن يعيش دهراً طويلا فتفاجئه الليالي بما لم يكن في حسابه.
وما قضى أحدٌ منها لبانته ... ولا انتهى أربٌ إلاّ إلى أرب
اللبانة: الحاجة وكذلك الأرب الإربة. وقيل الأرب: الغرض.
يعني: أن الإنسان ما دام في الدنيا لا يقضي منها وطره، وإن عاش دهراً طويلا، لأن ورآء كل حاجة حاجة أخرى، وهو كقول الآخر:
تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجةٌ ما بقي
تخالف النّاس حتّى لا اتّفاق لهم ... إلا على شجبٍ، والخلف في الشّجب
الشجب: الهلاك، وهو شجب وشاجب: أي هالك.
يقول: إن الناس اختلفوا في كل شيء، حتى لا يوجد منهم اتفاق إلا في الموت، فإنهم اتفقوا على كونه ومع ذلك اختلفوا فيه.
فقيل: تخلص نفس المرء سالمةً ... وقيل: تشرك جسم المرء في العطب
هذا تفسير للخلاف في الموت.
يعني: أن الناس مع اتفاقهم على أنه كائن، اختلفوا فيه أيضاً، فقال قوم: إن الجسم يموت والنفس تبقى حية، وهو قول الفلاسفة. وقال آخرون: تموت النفس مع الجسم، وهذا قول أهل الحق. والله أعلم بالحق.
ومن تفكّر في الدّنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتّعب