يقول: من تفكر في أحوال الدنيا وتقلبها بأهلها، وفي حال نفسه فيها، وأراد الوقوف على حقيقة الأمر، أتعب فكره وانقطع عاجزاً لم يحصل له علم بأحوالها ولم يقف على حقيقة أمرها.
وقال يمدح سيف الدولة، وقد أنفذ إلى أبي الطيب بعد مجيئه من مصر - وهو بالعراق - هدية مرةً بعد مرة، ومالاً، وذلك في شوال سنة اثنتين وخمسين وثلاث مئة:
ما لنا كلّنا جوىٍ يا رسول؟! ... أنا أهوى وقلبك المتبول
جو: أي حزين، والجوى: الحزن. والمتبول: المستهام في الهوى، كأنه أصيب بنبل، اتهم رسوله بمشاركته إياه في حبه.
يقول: يا رسول ما لكل واحد منا حزين بحب هذه الجارية؟ ولم أنا العاشق وقلبك المستهام المحزون!
كلّما عاد من بعثت إليها ... غار منّي وخان فيما يقول
يقول: كلما عاد رسولي من عندها وجدت فيه الحسد علي، والغيرة من مراسلتي ومواصلتي، وخان فيما يؤديه من المراسلة.
أفسدت بيننا الأمانات عينا ... ها، وخانت قلوبهنّ العقول
الكناية في قلوبهن للعقول وخان فعلها أيضاً، والتقدير: وخانت العقول قلوبهن، ونسب القلوب إلى العقول؛ لأنها محلها.
يقول: إن عينيها أفسدت ما بيننا من الأمانات، فكل من ينظر إلى عينيها عشقها وغلبه الهوى على حفظ الأمانات فخان فيما يؤديه من الرسالات، وخانت العقول قلوب أصحابها، من حيث لم تصور للقلوب وجوب حفظ الأمانة وحسنت للقلوب الغدر والخيانة.
تشتكي ما اشتكيت من ألم الشّو ... ق إليها والشّوق حيث النّحول
يقول: تشتكي المحبوبة من الشوق مثلما اشتكيت، ثم عرض بتكذيبها في شكواها فقال: والشوق حيث النحول: أي لو كانت تشتاق كما زعمت لنحلت كما نحلت؛ لأن النحول لا يفارق الاشتياق، فلما لم تنحل دل ذلك على خلاف ما تدعيه.
وإذا خامر الهوى قلب صبٍّ ... فعليه لكلّ عينٍ دليل
يقول: إذا خالط الهوى قلب صب، ظهرت عليه أماراته، فكل عين رأته استدلت بهذه الأمارات على ما في قلبه من ألم الشوق.
زوّدينا من حسن وجهك ما دا ... م فحسن الوجوه حالٌ تحول
ما دام: أي ما ثبت. وتحول: أي تنتقل وتزول.
يقول: متعينا بالنظر إلى حسن وجهك، ما دام الحسن معك، فإنه يزول ولا يدوم.
وصلينا نصلك في هذه الدّن ... يا فإنّ المقام فيها قليل
يقول: صلينا ما دمنا في الدنيا؛ فإنها دار زوال، والمقام فيها قليل، ففي قريب تزول.
من رآها بعينها شاقه القطّا ... ن فيها كما تشوق الحمول
القطان: المقيمون والحمول: الأحمال.
يقول: من رأى الدنيا بعين الدنيا، كما هي عليه، تمنى المقام فيها، كما يتمنى العاشق المقام مع أحمال المعشوق.
وقيل: معناه أن الناس في الدنيا على سفر، فمن نظر إلى الدنيا ووقف على حقيقتها علم أن المقيم فيها كالراحل عنها، فكما يجزع لفراق أصحاب الحمول ويشتاق للمحتملين، كذلك أيضاً يجزع للمقيمين، ويشتاق إليهم، فإنهم عن قريب راحلون ومثله:
وفارقتهم والدّهر هام لفرقةٍ ... أواخره دار البلى وأوائله
إن تريني أدمت بعد بياضٍ ... فحميدٌ من القناة الذّبول
أدم يأدم: أي مال لونه إلى الأدمة. وهي حمرة تضرب إلى السواد.
يقول: إن كانت الأسفار لوحت وجهي، فليس ذلك بعيب، وإن كان عيباً في سواي، بل هو وصف محمود؛ لدلالته على طلبي لمعالي الأمور، كما أن الذبول محمود في القناة، وإن كان مذموماً في غيرها.
صحبتني على الفلاة فتاة ... عادة اللّون عندها التّبديل
أراد بالفتاة الشمس؛ لأن الدهر لا يؤثر فيها، فكأنها كل يوم جديد.
يقول: صحبتني في الفلاة الشمس التي عادتها أن تغير الألوان، فغيرت لوني وأورثتني الأدمة.
يعني: أن الذي غير لوني طول الأسفار وملازمة القفار.
سترتك الحجال عنها ولكن ... بك منها من اللّمي تقبيل
اللمي: سمرة تعلو الشفة.
يقول لمحبوبته: إن الشمس لم تغير لونك؛ لأن الحجال سترتك عنها وإن على شفتك سمرة تشبة لوني فكأن الشمس قبلت شفتك، فهذه السمرة فيها من تقبيل الشمس إياك.
مثلها أنت لوّحتي وأسقم ... ت وزادت أبهاكما العطبول
لوحت الشيء بالنار: إذا غيرته وسفعت وجهه والعطبول: الناعمة الجسم الطويلة العنق.