دعته فلبّاها إلى المجد والعلا ... وقد خالف النّاس النّفوس الدّواعيا
يقول: دعته نفسه وهمته إلى طلب المجد والمعالي فأجابها، وغيره من الملوك قد خالفته النفوس الداعية.
فأصبح فوق العالمين يرونه ... وإن كان يدنيه التّكرّم نائيا
يقول: أصبح كافور، وقد علا الناس كلهم، فهم يرونه بعيد المراتب على المراقب، وإن كان يدنيه تواضعه من الناس.
ودخل عليه بعد إنشاد هذه القصيدة فابتسم إليه الأسود، ونهض فلبس نعلاً فرأى أبو الطيب شقوقاً برجليه وقبحها فقال يهجوه:
أريك الرّضا لو أخفت النّفس خافيا ... وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا
يقول: أنا أظهر لك الرضا عنك، والسرور بقربك، ولكن ما في نفسي لا يخفى، فإني غير راض عنك، ولا عن نفسي.
أميناً وإخلاقاً وغدراً وخسّةً ... وجبناً؟ أشخصاً لحت لي أم مخازيا؟!
مينا، وإخلافاً، وغدراً، وخسةً، وجبناً نصب على المصدر. وشخصاً نصب على الحال وكذلك مخازيا.
يقول: جمعت هذه المثالب، فإذا رأيتك لم أدر أنك إنسان، أم أنت مخاز؟!
تظنّ ابتساماتي رجاءً وغبطةً ... وما أنا إلاّ ضاحكٌ من رجائيا
يقول: إذا رأيتني ضاحكاً حسبت أني مسرور بقربك، راج لفضلك، وليس كذلك، بل ذاك سخرية بنفسي، أضحك منها، كيف رجت منالك مع لؤمك وخستك؟!
وتعجبني رجلاك في النّعل، إنّني ... رأيتك ذا نعلٍ إذا كنت حافيا
يقول: إذا رأيت رجليك في النعل تعجبت من لبسك النعل؛ لأني رأيتك ذا نعل، وإن كنت حافيا؛ لغلظ رجليك.
وقيل: المعنى إذا رأيتك وأنت لابس النعل تعجبت، وذكرت أيام كنت تمشي حافيا، ورجلاك كأنهما في النعل!
وأنّك لا تدري ألونك أسودٌ ... من الجهل أم قد صار أبيض صافيا؟!
يقول: من جهلك لا تعرف حقيقة لونك، وأنك أسود أم أبيض؟
ويذكرني تخييط كعبك شقّه ... ومشيك في ثوبٍ من الزّيت عاريا
يقول: إذا رأيت شقوق كعبك، تذكرت شقها حين كنت عبداً، والسودان تكثر الشقوق بأرجلهم.
وقوله: ومشيك في ثوب من الزيت عارياً: يعني: إني تذكرت أيام جئت من بلاد النوبة، وكنت تعرض على البيع وأنت عريان مطلى بالدهن، فكأنك لبست ثوب الزيت، وهذه عادة السودان إذا جلبوا أدهنوا بالزيت؛ ليصفو سوادهم. ونصب عاريا على الحال.
وقيل: معناه إنك أسود تضرب إلى الصفرة. والمولدون من أهل العراق يسمون من كان غير مشبع السواد زيتياً.
وقيل: معناه الوسخ الذي عليه من آثار دهن الزيت.
ولولا فضول النّاس جئتك مادحاً ... بما كنت في سرّى به لك هاجيا
يقول: إنك لا تعرف الهجو من المدح، فلولا أني أخاف من فضول الناس، لكنت أنشدك الهجو، وأريك أنه غاية المدح.
فأصبحت مسروراً بما أنا منشدٌ ... وإن كان بالإنشاد هجوك غاليا
يقول: كنت تسر بإنشادي هجوك! ظناً منك أنه مدح، وإن كان هجوك لا يتساوى بالإنشاد.
فإن كنت لا خيراً أفدت فإنّني ... أفدت بلحظى مشفريك الملاهيا
الملاهي: جمع ملهى، وهو كل ما يلهى به. ويجوز أن يكون مصدراً. ونصب مشفريك بلحظي أي أفدت الملاهي؛ بأن لحظت مشفريك.
يقول: لم أستفد منك خيراً، ولم أصل منك إلى مال، فإني استفدت اللهو برؤية مشفريك. وأفدت: بمعنى استفدت ها هنا.
ومثلك يؤتى من بلادٍ بعيدةٍ ... ليضحك ربّات الحداد البواكيا
الحداد: الثياب السود.
يقول: إن من رآك يضحك منك، حتى النساء اللابسات السواد في المصائب، إذا رأينك يضحكن منك، ويتسلين عن غمهن، وكل من عليه الحزن يقصدك من الأماكن البعيدة؛ ليلهو عن حزنه.
وبنى كافور داراً بإزاء الجامع الأعلى على البركة، وتحول إليها وهنأه الناس بها، وطالب أبا الطيب بذكرها فقال:
إنّما التّهنئات للأكفاء ... ولمن يدّنى من البعداء
يدنى: يفتعل من الدنو.
يقول: إنما تكون التهنئة بين الأكفاء، وأنا لست بكفء لك، وتكون لمن يكون بعيداً من الملوك ثم يدنوا منهم، وأنا لست بواحد من هذين، بل أنا عضو من أعضائك. على ما يبين فيما يليه.
وأنا منك لا يهنّئ عضوٌ ... بالمسرّات سائر الأعضاء
يقول: أنا عضو من اعضائك، وهل رأيت عضو إنسان يهنئ سائر أعضائه؟! فكما لا يهنئ الإنسان نفسه، كذلك لا يلزمني تهنئتك؛ لأني مشارك لك في الأحوال.