للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أروح وقد ختمت على فؤادي ... بحبّك أن يحلّ به سواكا

يقول: أحسنت إلي إحساناً ملكت به، حتى صرت مضطراً إلى حبك، وشغلت به قلبي. كما في الخبر: جبلت القلوب على حب من أحسن إليها فأنا أروح عنك مختوماً على قلبي بحبك، فلا يشغل بحب ملك غيرك.

وقد حمّلتني شكراً طويلاً ... ثقيلاً لا أطيق به حراكا

الحراك: الحركة. يعني: أروح عنك وقد حملتني من شكرك ما لا أطيق له حملاً، ولا أقدر على القيام به، لكثرة ما أفضت علي من إحسانك، فكيف أتفرغ إلى حمل نعمة غيرك؟؟! إشارة بالعود إليه.

أحاذر أن يشقّ على المطايا ... فلا تمشي بنا إلاّ سواكا

روى: إلا سواكا ومساكا وهما المشي الضعيف المضطرب. يقال: سوكت الإبل، إذا تمايلت في مشيتها من الضعف والهزال.

يقول: أخاف أن أشكرك، فيثقل على المطايا فلا تقدر على المشي تحته، إلا مشياً ضعيفاً من كثرة ما حملناه من العطايا، ومن كثرة ما تقلدنا من الشكر ونحن عليها.

لعلّ الله يجعله رحيلاً ... يعين على الإقامة في ذراكا

الذرا: الناحية والكنف.

يقول: أرجو أن يجعل الله تعالى هذا الرحيل سبباً لإقامتي في ذراك. يعني: إنما أمضى لأصلح شأني وأحمل أهلي وأقيم في ظلك ساكن النفس رخي البال.

فلو أنّي استطعت حفضت طرفي ... فلم أبصر به حتّى أراكا

يقول: لو قدرت بعد رحيلي عنك لغمضت طرفي، فلم أنظر إلى أحد حتى أرجع إليك؛ لشدة شوقي إليك، واهتمامي بسرعة العود، ومثله لآخر:

غمضت عيني لا أرى أحداً ... حتّى أراهم آخر الدّهر

وكيف الصّبر عنك وقد كفاني ... نداك المستفيض وما كفاكا؟

المستفيض: من فاض الماء، إذا سال.

يقول: أصبر عنك وقد أفضت علي من نعمائك حتى كفاني ما أعطيتنيه، وأغناني؟ وأنت بعد لم يكفك البذل والإنعام!

أتتركني وعين الشّمس نعلي ... فتقطع مشيتي فيها الشّراكا؟!

يقول: قد بلغت بقصدي إليك المنزلة الرفيعة، حتى صارت عين الشمس أو نفسها نعلي! فإذا فارقتك زالت عني هذه المنزلة، وانحططت عن الدرجة التي أوصلتني إليها، فكأن مشيتي قطعت شراك نعلي، حتى سقطت عن رجلي، وهذا مثل: يعني: لا أحط نفسي وأنت ترفعني. أي: لا أبعد عنك وأنت تقربين. وقوله: أتتركني كأنه يقول: لا تتركني أضيع الشرف الذي وصلت إليه بقصدك، كأنه يعرض بالرغبة في المقام عنده.

أرى أسفي، وما سرنا، شديداً ... فكيف إذا غدا السّيرا بتراكا؟؟!

ابتراكا: أي شديداً. يقال: ابتركت الناقة في سيرها إذا سارت سيراً شديداً ومثله لسحيم:

أشوقاً ولمّا يمض بي غير ليلةٍ ... فكيف إذا حثّ المطيّ بنا شهرا؟!

إلا أن في قوله: وما سرنا زيادة حسنة. وقد جعل مكان الشوق الأسف لأنه قال: وما سرنا فإذا لم يسر فلا شوق هناك. ومثله قول قيس:

أشوقاً ولمّا يمض بي غير ليلةٍ ... رويد الهوى حتّى تعبّ لياليا

ومثله لبعضهم:

وقد كنت أبكي والنّوى مطمئنة ... بنا وبكم من علم ما البين صانع

وهذا الشّوق قبل البين سيفٌ ... وها أنا ما ضربت وقد أحاكا!

يقال: ضربه فما أحاك فيه السيف. أي: لم يقطع.

يقول: عمل في الشوق وأنا بعد لم أرحل عنه، فكأنه سيف قطع من بدني قبل أن أضرب به. شبه الشوق بالسيف، ونفسه بمن أثر فيه السيف، ثم تعجب بأن أثر فيه السيف قبل الضرب به.

إذا التّوديع أعرض قال قلبي ... عليك الصّمت لا صاحبت فاكا

أعرض: أي قرب وظهر، ونصب الصمت بعليك لأنه إغراء: أي الزم الصمت.

يقول: كلما أردت أن ألفظ بالوداع قال لي قلبي: اسكت لا صحبت فاك: أي أهلكه الله تعالى وفرق بينك وبين فيك قبل أن تنطق بالوداع.

وقيل: المعنى أن القلب قال لي: اسكت بعد رحيلك عنه، ولا تمدح غيره، فلا صاحبت فاك.

ولولا أنّ أكثر ما تمنّى ... معاودةٌ لقلت: ولا مناكا!

أي: ما تتمنى، فحذف تاء المخاطبة. يعني: قال قلبي عندما أردت التوديع: اسكت فلا صحبت فاك إن نطقت بالوداع ومدحت بعده غيره. وقال أيضاً: لولا أنك تتمنى الرجوع إليه، لقلت لا صاحبت مناك أيضاً.

قد استشفيت من داءٍ بداءٍ ... وأقتل ما أعلّك ما شفاكا

أعلك: أي أمرضك.

<<  <   >  >>