للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إذ أنه جعل مجرد العلم الذي لا انقياد معه إيماناً، كما جعل الكفر الذي هو ضد الإيمان مجرد الجهل بما كان ينبغي أن يُعرف، فهو ولا شك مرجئ. ولكنه بالغ في الإرجاء حتى كان مذهبه يفوق مذهبهم من حيث الفساد، وسفاهة الرأي، والجهم كما عرفنا يرى أن إيمان الناس سواء لا تفاضل بينهم فيه، لأنهم لم يُكلَّفوا في الإيمان إلا بالمعرفة المجردة. والعصاة قال فيهم بقول المرجئة فجعلهم في حل مما يفعلون، وذلك بناء على رأيه في الجبر، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة، إلا لله وحده، وأنه هو الفاعل وأن الناس إنما تُنسَب إليهم أفعالهم على المجاز، كما يقال: تحركت الشجرة، ودار الفلك. فالإنسان عنده كالريشة المعلقة في مهب الريح فكيف يؤاخذ على أعمال لا قدرة له عليها. ولا شك أن هذا المذهب ظاهر الفساد فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وأعطاه القدرة على أن يفعل أو لا يفعل فهو مخير بين الفعل وتركه لا مجبور عليه، فأعطاه القدرة ووضع القيود، فإذا فعل فعل باختياره، وقدرته، وإذا ترك كذلك، فهو مؤاخذ على فعله وتركه لأنه بقدرته واختياره.

ثم إن المصادر التي ذكرت رأيه في الإيمان لم تذكر له دليلاً عليه. ونشأة الجهم، وكثرة مخالفاته، وسيرته الشريرة، تُنبئنا عن أنه قال أقوالاً يعرف أنها فاسدة، ولكن هواه قاده إلى تبنِّيها. ولا نكلف أنفسنا عناء البحث عن أدلة رأي لا يُقرِّه عقل، فضلاً عن أن يسنده ويقرره دين، والأمة بأسرها أجمعت على فساده وتفاهته، وبطلانه معلوم من الدين بالضرورة، وليس جهم ممن يُعتدُّ برأيه، ولولا الوفاء بالمذاهب في الإيمان لما تطرقت إلى ذكره. وقد أدى هذا الأصل من أصول عقيدة جهم إلى هجوم السلف عليه، وسنبين عند ذكرنا لموقفهم من آراء المتكلمين، ما ردوا به عليه، وألزموه به من إلزامات تدل على فساد مذهبه، وخروجه على مجال العقيدة الصحيحة.

<<  <   >  >>