للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الْمُوَاصَلَةُ نَتِيجَةَ التَّجَانُسِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ وُجُودُ الِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الِاتِّفَاقِ مُنَفِّرٍ. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:

النَّاسُ إنْ وَافَقْتهمْ عَذُبُوا ... أَوْ لَا فَإِنَّ جَنَاهُمْ مُرُّ

كَمْ مِنْ رِيَاضٍ لَا أَنِيسَ بِهَا ... تُرِكَتْ لِأَنَّ طَرِيقَهَا وَعْرُ

ثُمَّ يَحْدُثُ عَنْ الْمُوَاصَلَةِ رُتْبَةٌ ثَالِثَةٌ، وَسَبَبُهَا الِانْبِسَاطُ. ثُمَّ يَحْدُثُ عَنْ الْمُؤَانَسَةِ رُتْبَةٌ رَابِعَةٌ وَهِيَ الْمُصَافَاةُ، وَسَبَبُهَا خُلُوصُ النِّيَّةِ. وَرُتْبَةٌ خَامِسَةٌ وَهِيَ الْمَوَدَّةُ، وَسَبَبُهَا الثِّقَةُ. وَهَذِهِ الرُّتْبَةُ هِيَ أَدْنَى الْكَمَالِ فِي أَحْوَالِ الْإِخَاءِ وَمَا قَبْلَهَا أَسْبَابٌ تَعُودُ إلَيْهَا فَإِنْ اقْتَرَنَ بِهَا الْمُعَاضَدَةُ فَهِيَ الصَّدَاقَةُ.

ثُمَّ يَحْدُثُ عَنْ الْمَوَدَّةِ رُتْبَةٌ سَادِسَةٌ، وَهِيَ الْمَحَبَّةُ، وَسَبَبُهَا الِاسْتِحْسَانُ. فَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ لِفَضَائِلِ النَّفْسِ حَدَثَتْ رُتْبَةٌ سَابِعَةٌ، وَهِيَ الْإِعْظَامُ. وَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ لِلصُّورَةِ وَالْحَرَكَاتِ حَدَثَتْ رُتْبَةٌ ثَامِنَةٌ، وَهِيَ الْعِشْقُ وَسَبَبُهُ الطَّمَعُ. وَقَدْ قَالَ الْمَأْمُونُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

أَوَّلُ الْعِشْقِ مِزَاحٌ وَوَلَعْ ... ثُمَّ يَزْدَادُ إذَا زَادَ الطَّمَعْ

كُلُّ مَنْ يَهْوَى وَإِنْ غَالَتْ بِهِ ... رُتْبَةُ الْمِلْكِ لِمَنْ يَهْوَى تَبَعْ

وَهَذِهِ الرُّتْبَةُ آخِرُ الرُّتَبِ الْمَحْدُودَةِ، وَلَيْسَ لِمَا جَاوَزَهَا رُتْبَةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَلَا حَالَةٌ مَحْدُودَةٌ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُؤَدِّي إلَى مُمَازَجَةِ النُّفُوسِ وَإِنْ تَمَيَّزَتْ ذَوَاتُهَا، وَتُفْضِي إلَى مُخَالَطَةِ الْأَرْوَاحِ وَإِنْ تَفَارَقَتْ أَجْسَادُهَا.

وَهَذِهِ حَالَةٌ لَا يُمْكِنُ حَصْرُ غَايَتِهَا، وَلَا الْوُقُوفُ عِنْدَ نِهَايَتِهَا. وَقَدْ قَالَ الْكِنْدِيُّ: الصَّدِيقُ إنْسَانٌ هُوَ أَنْتَ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُك. وَمِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ أَقْطَعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ أَرْضًا وَكَتَبَ لَهُ بِهَا كِتَابًا، وَأَشْهَدَ فِيهِ نَاسًا مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَتَى طَلْحَةُ بِكِتَابِهِ إلَى عُمَرَ لِيَخْتِمَهُ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ، فَرَجَعَ طَلْحَةُ مُغْضَبًا إلَى أَبِي بَكْرٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي أَنْتَ الْخَلِيفَةُ أَمْ عُمَرُ؟ فَقَالَ: بَلْ عُمَرُ، لَكِنَّهُ أَنَا.

وَأَمَّا الْمُكْتَسَبَةُ بِالْقَصْدِ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إلَيْهَا، وَبَاعِثٍ يَبْعَثُ

<<  <   >  >>