ثَنَاءٌ مَنْ جَهِلَ أَمْرَك. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مَنْ قَوِيَ عَلَى نَفْسِهِ تَنَاهَى فِي الْقُوَّةِ، وَمَنْ صَبَرَ عَنْ شَهْوَتِهِ بَالَغَ فِي الْمُرُوَّةِ.
فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ نَفْسَهُ عِنْدَ مَعْرِفَةِ مَا أَكَنَّتْ، وَخِبْرَةِ مَا أَجَنَّتْ بِتَقْوِيمِ عِوَجِهَا وَإِصْلَاحِ فَسَادِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ رَبَّهُ؟ قَالَ إذَا عَرَفَ نَفْسَهُ» . ثُمَّ يُرَاعِي مِنْهَا مَا صَلُحَ وَاسْتَقَامَ مِنْ زَيْعٍ يَحْدُثُ عَنْ إغْفَالٍ، أَوْ مَيْلٍ يَكُونُ عَنْ إهْمَالٍ؛ لِيَتِمَّ لَهُ الصَّلَاحُ وَتَسْتَدِيمَ لَهُ السَّعَادَةُ، فَإِنَّ الْمُغَفَّلَ بَعْدَ الْمُعَانَاةِ ضَائِعٌ، وَالْمُهْمِلَ بَعْدَ الْمُرَاعَاةِ زَائِغٌ. وَسَنَذْكُرُ مِنْ أَحْوَالِ أَدَبِ الرِّيَاضَةِ وَالِاسْتِصْلَاحِ فُصُولًا تَحْتَوِي عَلَى مَا يَلْزَمُ مُرَاعَاتُهُ مِنْ الْأَخْلَاقِ، وَيَجِبُ مُعَانَاتُهُ مِنْ الْأَدَبِ، وَهِيَ سِتَّةُ فُصُولٍ مُتَفَرِّعَةٍ.
[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي مُجَانَبَةِ الْكِبْرِ وَالْإِعْجَابِ]
مُجَانَبَةُ الْكِبْرِ وَالْإِعْجَابِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي مُجَانَبَةِ الْكِبْرِ وَالْإِعْجَابِ: لِأَنَّهُمَا يَسْلُبَانِ الْفَضَائِلَ، وَيُكْسِبَانِ الرَّذَائِلَ. وَلَيْسَ لِمَنْ اسْتَوْلَيَا عَلَيْهِ إصْغَاءٌ لِنُصْحٍ، وَلَا قَبُولٌ لِتَأْدِيبٍ؛ لِأَنَّ الْكِبْرَ يَكُونُ بِالْمَنْزِلَةِ، وَالْعُجْبَ يَكُونُ بِالْفَضِيلَةِ. فَالْمُتَكَبِّرُ يُجِلُّ نَفْسَهُ عَنْ رُتْبَةِ الْمُتَعَلِّمِينَ، وَالْمُعْجَبُ يَسْتَكْثِرُ فَضْلَهُ عَنْ اسْتِزَادَةِ الْمُتَأَدِّبِينَ. فَلِذَلِكَ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْقَوْلِ فِيهِمَا بِإِبَانَةِ مَا يُكْسِبَانِهِ مِنْ ذَمٍّ، وَيُوجِبَانِهِ مِنْ لَوْمٍ.
فَنَقُولُ: أَمَّا الْكِبْرُ فَيُكْسِبُ الْمَقْتَ وَيُلْهِي عَنْ التَّأَلُّفِ وَيُوغِرُ صُدُورَ الْإِخْوَانِ، وَحَسْبُك بِذَلِكَ سُوءًا عَنْ اسْتِقْصَاءِ ذَمِّهِ. وَلِذَلِكَ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ أَنْهَاك عَنْ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ وَالْكِبْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَحْتَجِبُ مِنْهُمَا» . وَقَالَ أَزْدَشِيرُ بْنُ بَابَكَ: مَا الْكِبْرُ إلَّا فَضْلُ حُمْقٍ لَمْ يَدْرِ صَاحِبُهُ أَيْنَ يَذْهَبُ بِهِ فَيَصْرِفُهُ إلَى الْكِبْرِ. وَمَا أَشْبَهَ مَا قَالَ بِالْحَقِّ.
وَحُكِيَ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ نَظَرَ إلَى الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ يَسْحَبُهَا وَيَمْشِي الْخُيَلَاءَ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا هَذِهِ الْمِشْيَةُ الَّتِي يُبْغِضُهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute