اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ فَقَالَ الْمُهَلَّبُ: أَمَا تَعْرِفُنِي؟ فَقَالَ: بَلْ أَعْرِفُك، أَوَّلُك نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ، وَآخِرُك جِيفَةٌ قَذِرَةٌ، وَحَشْوُك فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ بَوْلٌ وَعَذِرَةٌ. فَأَخَذَ ابْنُ عَوْفٍ هَذَا الْكَلَامَ فَنَظَمَهُ شِعْرًا فَقَالَ:
عَجِبْتُ مِنْ مُعْجَبٍ بِصُورَتِهِ ... وَكَانَ بِالْأَمْسِ نُطْفَةً مَذِرَهْ
وَفِي غَدٍ بَعْدَ حُسْنِ صُورَتِهِ ... يَصِيرُ فِي اللَّحْدِ جِيفَةً قَذِرَهْ
وَهُوَ عَلَى تِيهِهِ وَنَخْوَتِهِ ... مَا بَيْنَ ثَوْبَيْهِ يَحْمِلُ الْعَذِرَهْ
وَقَدْ كَانَ الْمُهَلَّبُ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يَخْدَعَ نَفْسَهُ بِهَذَا الْجَوَابِ غَيْرِ الصَّوَابِ، وَلَكِنَّهَا زَلَّةٌ مِنْ زَلَّاتِ الِاسْتِرْسَالِ، وَخَطِيئَةٌ مِنْ خَطَايَا الْإِدْلَالِ.
فَأَمَّا الْحُمْقُ الصَّرِيحُ، وَالْجَهْلُ الْقَبِيحُ، فَهُوَ مَا حُكِيَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ جَلَسَ فِي حَلْقَةِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخِرَقِيِّ وَهُوَ يُقْرِئُ النَّاسَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: أَتَدْرُونَ لِمَ جَلَسْتُ إلَيْكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْتَ لِتَسْمَعَ. قَالَ: لَا وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَتَوَاضَعَ لِلَّهِ بِالْجُلُوسِ إلَيْكُمْ. فَهَلْ يُرْجَى مِنْ هَذَا فَضْلٌ أَوْ يَنْفَعُ فِيهِ عَذَلٌ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ: لَمَّا عَرَفَ أَهْلُ النَّقْصِ حَالَهُمْ عِنْدَ ذَوِي الْكَمَالِ اسْتَعَانُوا بِالْكِبْرِ لِيُعَظِّمَ صَغِيرًا، وَيَرْفَعَ حَقِيرًا، وَلَيْسَ بِفَاعِلٍ.
وَأَمَّا الْإِعْجَابُ فَيُخْفِي الْمَحَاسِنَ وَيُظْهِرُ الْمَسَاوِئَ وَيُكْسِبُ الْمَذَامَّ وَيَصُدُّ عَنْ الْفَضَائِلِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْعُجْبَ لَيَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ» . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: الْإِعْجَابُ ضِدُّ الصَّوَابِ وَآفَةُ الْأَلْبَابِ. وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرُ: النِّعْمَةُ الَّتِي لَا يُحْسَدُ صَاحِبُهَا عَلَيْهَا التَّوَاضُعُ، وَالْبَلَاءُ الَّذِي لَا يُرْحَمُ صَاحِبُهُ مِنْهُ الْعُجْبُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: عُجْبُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ. وَلَيْسَ إلَى مَا يُكْسِبُهُ الْكِبْرُ مِنْ الْمَقْتِ حَدٌّ، وَلَا إلَى مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ الْعُجْبُ مِنْ الْجَهْلِ غَايَةٌ، حَتَّى إنَّهُ لَيُطْفِئَ مِنْ الْمَحَاسِنِ مَا انْتَشَرَ، وَيَسْلُبَ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا اشْتَهَرَ. وَنَاهِيَك بِسَيِّئَةٍ تُحْبِطُ كُلَّ حَسَنَةٍ وَبِمَذَمَّةِ تَهْدِمُ كُلَّ فَضِيلَةٍ، مَعَ مَا يُثِيرُهُ مِنْ حَنَقٍ وَيُكْسِبُهُ مِنْ حِقْدٍ.
حَكَى عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: قِيلَ لِلْحَجَّاجِ كَيْفَ وَجَدْت مَنْزِلَك بِالْعِرَاقِ؟ قَالَ: خَيْرُ مَنْزِلٍ لَوْ كَانَ اللَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute