مَحَاسِنِهَا.
وَمَنْ عَمِيَ عَنْ مَحَاسِنِ نَفْسِهِ كَانَ كَمَنْ عَمِيَ عَنْ مَسَاوِئِهَا، فَلَمْ يَنْفِ عَنْهَا قَبِيحًا وَلَمْ يَهْدِ إلَيْهَا حَسَنًا. وَقَدْ قَالَ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي التُّهْمَةِ لِنَفْسِهِ مُعْتَدِلًا، وَفِي حُسْنِ الظَّنِّ بِهَا مُقْتَصِدًا، فَإِنَّهُ إنْ تَجَاوَزَ مِقْدَارَ الْحَقِّ فِي التُّهْمَةِ ظَلَمَهَا فَأَوْدَعَهَا ذِلَّةَ الْمَظْلُومِينَ، وَإِنْ تَجَاوَزَ بِهَا الْحَقَّ فِي مِقْدَارِ حُسْنِ الظَّنِّ أَوْدَعَهَا تَهَاوُنَ الْآمَنِينَ، وَلِكُلِّ ذَلِكَ مِقْدَارٌ مِنْ الشُّغْلِ، وَلِكُلِّ شُغْلٍ مِقْدَارٌ مِنْ الْوَهْنِ، وَلِكُلِّ وَهْنٍ مِقْدَارٌ مِنْ الْجَهْلِ.
وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ كَانَ لِغَيْرِهِ أَظْلَمَ، وَمَنْ هَدَمَ دِينَهُ كَانَ لِمَجْدِهِ أَهْدَمَ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ سُوءَ الظَّنِّ بِهَا أَبْلُغُ فِي صَلَاحِهَا، وَأَوْفَرُ فِي اجْتِهَادِهَا؛ لِأَنَّ لِلنَّفْسِ جَوْرًا لَا يَنْفَكُّ إلَّا بِالسَّخَطِ عَلَيْهَا، وَغُرُورًا لَا يَنْكَشِفُ إلَّا بِالتُّهْمَةِ لَهَا؛ لِأَنَّهَا مَحْبُوبَةٌ تَجُورُ إدْلَالًا وَتَغُرُّ مَكْرًا، فَإِنْ لَمْ يُسِئْ الظَّنَّ بِهَا غَلَبَ عَلَيْهِ جَوْرُهَا، وَتَمَوَّهَ عَلَيْهِ غُرُورُهَا فَصَارَ بِمَيْسُورِهَا قَانِعًا، وَبِالشُّبْهَةِ مِنْ أَفْعَالِهَا رَاضِيًا.
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ: مَنْ رَضِيَ عَنْ نَفْسِهِ أَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ. وَقَالَ كُشَاجِمُ:
لَمْ أَرْضَ عَنْ نَفْسِي مَخَافَةَ سُخْطِهَا ... وَرِضَا الْفَتَى عَنْ نَفْسِهِ إغْضَابُهَا
وَلَوْ أَنَّنِي عَنْهَا رَضِيتُ لَقَصَّرَتْ ... عَمَّا تَزِيدُ بِمِثْلِهِ آدَابُهَا
وَتَبَيَّنَتْ آثَارَ ذَاكَ فَأَكْثَرَتْ ... عَذْلِي عَلَيْهِ فَطَالَ فِيهِ عِتَابُهَا
وَقَدْ اُسْتُحْسِنَ قَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ الطَّائِيِّ:
وَيُسِيءُ بِالْإِحْسَانِ ظَنًّا لَا كَمَنْ ... هُوَ بِابْنِهِ وَبِشَعْرِهِ مَفْتُونُ
فَلَمْ يَرَوْا إسَاءَةَ ظَنِّهِ بِالْإِحْسَانِ ذَمًّا وَلَا اسْتِقْلَالَ عِلْمِهِ لَوْمًا، بَلْ رَأَوْا ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْفَضْلِ وَأَبْعَثَ عَلَى الِازْدِيَادِ فَإِذَا عَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ مَا تُجِنُّ، وَتَصَوَّرَ مِنْهَا مَا تُكِنُّ، وَلَمْ يُطَاوِعْهَا فِيمَا تُحِبُّ إذَا كَانَ غَيًّا، وَلَا صَرَفَ عَنْهَا مَا تَكْرَهُ إذَا كَانَ رُشْدًا، فَقَدْ مَلَكَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي مِلْكِهَا، وَغَلَبَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي غَلْبِهَا.
وَقَدْ رَوَى أَبُو حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشَّدِيدُ مَنْ غَلَبَ نَفْسَهُ» . وَقَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إذَا عَصَتْكَ نَفْسُك فِيمَا كَرِهْتَ فَلَا تُطِعْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ، وَلَا يَغُرَّنَّك
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute