جَامِعَاتُ الرَّذَائِلِ، سَالِبَاتُ الْفَضَائِلِ، مَعَ أَنَّ الْحَرِيصَ لَا يَسْتَزِيدُ بِحِرْصِهِ زِيَادَةً عَلَى رِزْقِهِ سِوَى إذْلَالِ نَفْسِهِ، وَإِسْخَاطِ خَالِقِهِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْحَرِيصُ الْجَاهِدُ وَالْقَنُوعُ الزَّائِدُ يَسْتَوْفِيَانِ أَكْلَهُمَا غَيْرُ مُنْتَقِصٍ مِنْهُ شَيْءٌ، فَعَلَامَ التَّهَافُتُ فِي النَّارِ» .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْحِرْصُ مَفْسَدَةٌ لِلدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ، وَاَللَّهِ مَا عَرَفْتُ مِنْ وَجْهِ رَجُلٍ حِرْصًا فَرَأَيْتُ أَنَّ فِيهِ مُصْطَنَعًا. وَقَالَ آخَرُ: الْحَرِيصُ أَسِيرُ مَهَانَةٍ لَا يُفَكُّ أَسْرُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: الْمَقَادِيرُ الْغَالِبَةُ لَا تُنَالُ بِالْمُغَالَبَةِ، وَالْأَرْزَاقُ الْمَكْتُوبَةُ لَا تُنَالُ بِالشِّدَّةِ وَالْمُطَالَبَةِ، فَذَلِّلْ لِلْمَقَادِيرِ نَفْسَك وَاعْلَمْ بِأَنَّك غَيْرُ نَائِلٍ بِالْحِرْصِ إلَّا حَظَّك. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: رُبَّ حَظٍّ أَدْرَكَهُ غَيْرُ طَالِبِهِ، وَدُرٍّ أَحْرَزَهُ غَيْرُ جَالِبِهِ.
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِمُحَمَّدِ بْنِ حَازِمٍ:
يَا أَسِيرَ الطَّمَعِ الْكَاذِبِ ... فِي غِلِّ الْهَوَانِ
إنَّ عِزَّ الْيَأْسِ خَيْرٌ ... لَك مِنْ ذُلِّ الْأَمَانِي
سَامِحْ الدَّهْرَ إذَا عَزَّ ... وَخُذْ صَفْوَ الزَّمَانِ
إنَّمَا أُعْدِمَ ذُو الْحِرْصِ ... وَأُثْرِيَ ذُو الْتَوَانِي
وَلَيْسَ لِلْحَرِيصِ غَايَةٌ مَقْصُودَةٌ يَقِفُ عِنْدَهَا، وَلَا نِهَايَةٌ مَحْدُودَةٌ يَقْنَعُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا وَصَلَ بِالْحِرْصِ إلَى مَا أَمَّلَ أَغْرَاهُ ذَلِكَ بِزِيَادَةِ الْحِرْصِ وَالْأَمَلِ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ رَأَى إضَاعَةَ الْغِنَى لُؤْمًا، وَالصَّبْرَ عَلَيْهِ حَزْمًا، وَصَارَ بِمَا سَلَفَ مِنْ رَجَائِهِ أَقْوَى رَجَاءً وَأَبْسَطَ أَمَلًا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «يَشِيبُ ابْنُ آدَمَ وَيَبْقَى مَعَهُ خَصْلَتَانِ الْحِرْصُ وَالْأَمَلُ» . وَقِيلَ لِلْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مَا بَالُ الْمَشَايِخِ أَحْرِصُ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ الشَّبَابِ؟ قَالَ:؛ لِأَنَّهُمْ ذَاقُوا مِنْ طَعْمِ الدُّنْيَا مَا لَمْ يَذُقْهُ الشَّبَابُ. وَلَوْ صَدَقَ الْحَرِيصُ نَفْسَهُ وَاسْتَنْصَحَ عَقْلَهُ لَعَلِمَ أَنَّ مِنْ تَمَامِ السَّعَادَةِ وَحُسْنِ التَّوْفِيقِ الرِّضَاءَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَنَاعَةَ بِالْقَسْمِ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اقْتَصِدُوا فِي الطَّلَبِ فَإِنَّ مَا رُزِقْتُمُوهُ أَشَدُّ طَلَبًا لَكُمْ مِنْكُمْ لَهُ وَمَا حُرِمْتُمُوهُ فَلَنْ تَنَالُوهُ وَلَوْ حَرَصْتُمْ» . وَرُوِيَ «أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ - هَبَطَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute