لِمَا سِوَاهُ.
وَهَذَا أَعْلَى مَنَازِلِ الْقَنَاعَةِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إذَا شِئْتَ أَنْ تَحْيَا غَنِيًّا فَلَا تَكُنْ ... عَلَى حَالَةٍ إلَّا رَضِيتَ بِدُونِهَا
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: أَزْهَدُ النَّاسِ مَنْ لَا تَتَجَاوَزُ رَغْبَتُهُ مِنْ الدُّنْيَا بُلْغَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الرِّضَى بِالْكَفَافِ يُؤَدِّي إلَى الْعَفَافِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: يَا رُبَّ ضَيِّقٍ أَفْضَلِ مِنْ سَعَةٍ، وَعَنَاءٍ خَيْرٍ مِنْ دَعَةٍ. وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهِهِ -:
أَفَادَتْنِي الْقَنَاعَةُ كُلَّ عِزٍّ ... وَأَيُّ غِنًى أَعَزُّ مِنْ الْقَنَاعَهْ
فَصَيِّرْهَا لِنَفْسِك رَأْسَ مَالٍ ... وَصَيِّرْ بَعْدَهَا التَّقْوَى بِضَاعَهْ
تَحَرَّزْ حِينَ تَغْنَى عَنْ بِخَيْلٍ ... وَتَنَعَّمْ فِي الْجِنَانِ بِصَبْرِ سَاعَهْ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَنْتَهِيَ بِهِ الْقَنَاعَةُ إلَى الْكِفَايَةِ، وَيَحْذِفُ الْفُضُولَ وَالزِّيَادَةَ. وَهَذِهِ أَوْسَطُ حَالِ الْمُقْتَنِعِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ إلَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِزْقِهِ حِجَابٌ، فَإِنْ قَنَعَ وَاقْتَصَدَ أَتَاهُ رِزْقُهُ، وَإِنْ هَتَكَ الْحِجَابَ لَمْ يَزِدْ فِي رِزْقِهِ» . وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَا فَوْقَ الْكَفَافِ إسْرَافٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مَنْ رَضِيَ بِالْمَقْدُورِ قَنَعَ بِالْمَيْسُورِ. وَقَالَ الْبُحْتُرِيُّ:
تَطْلُبُ الْأَكْثَرَ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ ... تَبْلُغُ الْحَاجَةَ مِنْهَا بِالْأَقَلِّ
وَأَنْشَدْتُ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُدَبَّرِ:
إنَّ الْقَنَاعَةَ وَالْعَفَافَ ... لَيُغْنِيَانِ عَنْ الْغِنَى
فَإِذَا صَبَرْتَ عَنْ الْمُنَى ... فَاشْكُرْ فَقَدْ نِلْتَ الْمُنَى
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ تَنْتَهِيَ بِهِ الْقَنَاعَةُ إلَى الْوُقُوفِ عَلَى مَا سَنَحَ فَلَا يَكْرَهُ مَا أَتَاهُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، وَلَا يَطْلُبُ مَا تَعَذَّرَ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا. وَهَذِهِ الْحَالُ أَدْنَى مَنَازِلِ أَهْلِ الْقَنَاعَةِ؛ لِأَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ. أَمَّا الرَّغْبَةُ؛ فَلِأَنَّهُ لَا يَكْرَهُ الزِّيَادَةَ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا سَنَحَتْ. وَأَمَّا الرَّهْبَةُ؛ فَلِأَنَّهُ لَا يَطْلُبُ الْمُتَعَذَّرَ عَنْ نُقْصَانِ الْمَادَّةِ إذَا تَعَذَّرَتْ. وَفِي مِثْلِهِ قَالَ ذُو النُّونِ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ -:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute