وَأَصْلُ كُلِّ فَسَادٍ.
وَمِنْهَا: أَنْ يُؤْثِرَ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُهُ مُسْتَعْذَبًا وَكَلَامُهُ مُسْتَظْرَفًا، فَلَا يَجِدُ صِدْقًا يُعْذَبُ وَلَا حَدِيثًا يُسْتَظْرَفُ، فَيَسْتَحْلِي الْكَذِبَ الَّذِي لَيْسَتْ غَرَائِبُهُ مَعُوزَةً، وَلَا ظَرَائِفُهُ مُعْجِزَةً. وَهَذَا النَّوْعُ أَسْوَأُ حَالًا مِمَّا قَبْلُ؛ لِأَنَّهُ يَصْدُرُ عَنْ مَهَانَةِ النَّفْسِ وَدَنَاءَةِ الْهِمَّةِ. وَقَدْ قَالَ الْجَاحِظُ: لَمْ يَكْذِبْ أَحَدٌ قَطُّ إلَّا لِصِغَرِ قَدْرِ نَفْسِهِ عِنْدَهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ: لَا تَتَهَاوَنْ بِإِرْسَالِ الْكِذْبَةِ مِنْ الْهَزْلِ فَإِنَّهَا تُسْرِعُ إلَى إبْطَالِ الْحَقِّ. وَمِنْهَا: أَنْ يَقْصِدَ بِالْكَذِبِ التَّشَفِّيَ مِنْ عَدُوِّهِ فَيُسَمِّهِ بِقَبَائِحَ يَخْتَرِعُهَا عَلَيْهِ، وَيَصِفُهُ بِفَضَائِحَ يَنْسُبُهَا إلَيْهِ. وَيَرَى أَنَّ مَعَرَّةَ الْكَذِبِ غُنْمٌ وَأَنَّ إرْسَالَهَا فِي الْعَدُوِّ سَهْمٌ وَسُمٌّ. وَهَذَا أَسْوَأُ حَالًا مِنْ النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلِينَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْكَذِبِ الْمُعِرِّ وَالشَّرِّ الْمُضِرِّ. وَلِذَلِكَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِرَدِّ شَهَادَةِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ.
وَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ دَوَاعِي الْكَذِبِ قَدْ تَرَادَفَتْ عَلَيْهِ حَتَّى أَلِفَهَا، فَصَارَ الْكَذِبُ لَهُ عَادَةً، وَنَفْسُهُ إلَيْهِ مُنْقَادَةٌ، حَتَّى لَوْ رَامَ مُجَانَبَةَ الْكَذِبِ عَسِرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ طَبْعٌ ثَانٍ. وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ: مَنْ اسْتَحْلَى رَضَاعَ الْكَذِبِ عَسِرَ فِطَامُهُ. وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: لَا يَلْزَمُ الْكَذَّابَ شَيْءٌ إلَّا غَلَبَ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْكَذَّابِ قَبْلَ خِبْرَتِهِ أَمَارَاتٍ دَالَّةً عَلَيْهِ. فَمِنْهَا: أَنَّك إذَا لَقَّنْتَهُ الْحَدِيثَ تَلَقَّنَهُ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ مَا لَقَّنْته وَبَيْنَ مَا أَوْرَدَهُ فَرْقٌ عِنْدَهُ. وَمِنْهَا: أَنَّك إذَا شَكَّكْتَهُ فِيهِ تَشَكَّكَ حَتَّى يَكَادَ يَرْجِعُ فِيهِ، وَلَوْلَاك مَا تَخَالَجَهُ الشَّكُّ فِيهِ. وَمِنْهَا: أَنَّك إذَا رَدَدْت عَلَيْهِ قَوْلَهُ حُصِرَ وَارْتَبَكَ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ نُصْرَةُ الْمُحْتَجِّينَ، وَلَا بُرْهَانُ الصَّادِقِينَ. وَلِذَلِكَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: الْكَذَّابُ كَالسَّرَابِ.
وَمِنْهَا: مَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ رِيبَةِ الْكَذَّابِينَ وَيَنُمُّ عَلَيْهِ مِنْ ذِلَّةِ الْمُتَوَهِّمِينَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ لَا يُمْكِنُ الْإِنْسَانُ دَفْعَهَا عَنْ نَفْسِهِ؛ لِمَا فِي الطَّبْعِ مِنْ آثَارِهَا. وَلِذَلِكَ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ: الْعَيْنَانِ أَنَمُّ مِنْ اللِّسَانِ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: الْوُجُوهُ مَرَايَا تُرِيك أَسْرَارَ الْبَرَايَا. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
تُرِيكَ أَعْيُنُهُمْ مَا فِي صُدُورِهِمْ ... إنَّ الْعُيُونَ يُؤَدِّي سِرَّهَا النَّظَرُ
وَإِذَا اتَّسَمَ بِالْكَذِبِ نُسِبَتْ إلَيْهِ شَوَارِدُ الْكَذِبِ الْمَجْهُولَةُ، وَأُضِيفَتْ إلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute