للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فَاقْتَصِرْ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يُقِيمُ حُجَّتَك، وَيُبَلِّغُ حَاجَتَك، وَإِيَّاكَ وَفُضُولَهُ فَإِنَّهُ يُزِلُّ الْقَدَمَ، وَيُورِثُ النَّدَمَ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ: فَمُ الْعَاقِلِ مُلَجَّمٌ إذَا هَمَّ بِالْكَلَامِ أَحْجَمَ، وَفَمُ الْجَاهِلِ مُطْلَقٌ كُلَّمَا شَاءَ أَطْلَقَ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:

إنَّ الْكَلَامَ يَغُرُّ الْقَوْمَ جِلْوَتُهُ ... حَتَّى يَلِجَّ بِهِ عِيٌّ وَإِكْثَارُ

وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ اللَّفْظِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ؛ فَلِأَنَّ اللِّسَانَ عُنْوَانُ الْإِنْسَانِ يُتَرْجِمُ عَنْ مَجْهُولِهِ، وَيُبَرْهِنُ عَنْ مَحْصُولِهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بِتَهْذِيبِ أَلْفَاظِهِ حَرِيًّا وَبِتَقْوِيمِ لِسَانِهِ مَلِيًّا. رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ: يُعْجِبُنِي جَمَالُك. قَالَ: وَمَا جَمَالُ الرَّجُلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِسَانُهُ» .

وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ: مَا الْإِنْسَانُ لَوْلَا اللِّسَانُ هَلْ إلَّا بَهِيمَةٌ مُهْمَلَةٌ أَوْ صُورَةٌ مُمَثَّلَةٌ؟ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: اللِّسَانُ وَزِيرُ الْإِنْسَانِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: كَلَامُ الْمَرِيدِ وَافِدُ أَدَبِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: يُسْتَدَلُّ عَلَى عَقْلِ الرَّجُلِ بِقَوْلِهِ، وَعَلَى أَصْلِهِ بِفِعْلِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:

وَإِنَّ لِسَانَ الْمَرْءِ مَا لَمْ تَكُنْ لَهُ ... حَصَاةٌ عَلَى عَوْرَاتِهِ لَدَلِيلُ

وَلَيْسَ يَصِحُّ اخْتِيَارُ الْكَلَامِ لَا لِمَنْ أَخَذَ نَفْسَهُ بِالْبَلَاغَةِ، وَكَلَّفَهَا لُزُومَ الْفَصَاحَةِ، حَتَّى يَصِيرَ مُتَدَرِّبًا بِهَا مُعْتَادًا لَهَا، فَلَا يَأْتِيَ بِكَلَامٍ مُسْتَكْرَهِ اللَّفْظِ وَلَا مُخْتَلِّ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْبَلَاغَةَ لَيْسَتْ عَلَى مَعَانٍ مُفْرَدَةٍ وَلَا لِأَلْفَاظِهَا غَايَةٌ، وَإِنَّمَا الْبَلَاغَةُ أَنْ تَكُونَ بِالْمَعَانِي الصَّحِيحَةِ مُسْتَوْدَعَةٌ فِي أَلْفَاظٍ فَصَيْحَةٍ.

فَتَكُونُ فَصَاحَةُ الْأَلْفَاظِ مَعَ صِحَّةِ الْمَعَانِي هِيَ الْبَلَاغَةُ. وَقَدْ قِيلَ لِلْيُونَانِيِّ؛ مَا الْبَلَاغَةُ؟ قَالَ: اخْتِيَارُ الْكَلَامِ وَتَصْحِيحُ الْأَقْسَامِ. وَقِيلَ ذَلِكَ لِلرُّومِيِّ، فَقَالَ: حَسَنُ الِاخْتِصَارِ عِنْدَ الْبَدِيهَةِ وَالْغَزَارَةُ يَوْمَ الْإِطَالَةِ. وَقِيلَ لِلْهِنْدِيِّ فَقَالَ: مَعْرِفَةُ الْفَصْلِ مِنْ الْوَصْلِ. وَقِيلَ لِلْعَرَبِيِّ فَقَالَ: مَا حَسُنَ إيجَازُهُ وَقَلَّ مَجَازُهُ. وَقِيلَ لِلْبَدْوِيِّ فَقَالَ: مَا دُونَ السَّحَرِ وَفَوْقَ الشِّعْرِ، يَفُتُّ الْخَرْدَلَ وَيَحُطُّ الْجَنْدَلَ. وَقِيلَ لِلْحَضَرِيِّ فَقَالَ: مَا كَثُرَ إعْجَازُهُ وَتَنَاسَبَتْ صُدُورُهُ وَأَعْجَازُهُ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ: الْبَلَاغَةُ قِلَّةُ الْحَصْرِ وَالْجَرَاءَةُ عَلَى الْبَشَرِ.

وَسَأَلَ الْحَجَّاجُ ابْنَ الْقَرْيَةِ عَنْ الْإِيجَازِ قَالَ: أَنْ تَقُولَ فَلَا تُبْطِئَ وَأَن

<<  <   >  >>