كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: الصَّبْرُ مَطِيَّةٌ لَا تَكْبُو، وَالْقَنَاعَةُ سَيْفٌ لَا يَنْبُو. وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: لَمْ أَسْمَعْ أَعْجَبَ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ أَنَّ الصَّبْرَ وَالشُّكْرَ يُعَيِّرَانِ مَا بَالَيْت أَيَّهُمَا رَكِبْتُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَفْضَلُ الْعُدَّةِ الصَّبْرُ عَلَى الشِّدَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مِنْ خَيْرِ خِلَالِك الصَّبْرُ عَلَى اخْتِلَالِك. وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: مَنْ أَحَبَّ الْبَقَاءَ فَلْيُعِدَّ لِلْمَصَائِبِ قَلْبًا صَبُورًا. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: بِالصَّبْرِ عَلَى مَوَاقِعِ الْكُرْهِ تُدْرَكُ الْحُظُوظُ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ، وَهُوَ عُبَيْدُ بْنُ الْأَبْرَصِ:
صَبِّرْ النَّفْسَ عِنْدَ كُلِّ مُلِمٍّ ... إنَّ فِي الصَّبْرِ حِيلَةَ الْمُحْتَالِ
لَا تُضَيِّقَنَّ فِي الْأُمُورِ فَقَدْ تُكْشَفُ ... غِمَاؤُهَا بِغَيْرِ احْتِيَالِ
رُبَّمَا تَجْزَعُ النُّفُوسُ مِنْ الْأَمْرِ ... لَهُ فُرْجَةٌ كَحِلِّ الْعِقَالِ
وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ فِي كِتَابِ الْيَتِيمَةِ: الصَّبْرُ صَبْرَانِ: فَاللِّئَامُ أَصْبَرُ أَجْسَامًا، وَالْكِرَامُ أَصْبَرُ نُفُوسًا. وَلَيْسَ الصَّبْرُ الْمَمْدُوحُ صَاحِبُهُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَوِيَّ الْجَسَدِ عَلَى الْكَدِّ وَالْعَمَلِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ صِفَاتِ الْحَمِيرِ، وَلَكِنْ أَنْ يَكُونَ لِلنَّفْسِ غَلُوبًا، وَلِلْأُمُورِ مُتَحَمِّلًا، وَلِجَأْشِهِ عِنْدَ الْحِفَاظِ مُرْتَبِطًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ، وَهُوَ فِي كُلِّ قِسْمٍ مِنْهَا مَحْمُودٌ. فَأَوَّلُ أَقْسَامِهِ وَأَوْلَاهَا: الصَّبْرُ عَلَى امْتِثَالِ مَا أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِهِ، وَالِانْتِهَاءُ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ بِهِ تَخْلُصُ الطَّاعَةُ وَبِهَا يَصِحُّ الدِّينُ وَتُؤَدَّى الْفُرُوضُ وَيُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ، كَمَا قَالَ فِي مُحْكِمِ الْكِتَابِ: {إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: ١٠]
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّبْرُ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ» .
وَلَيْسَ لِمَنْ قَلَّ صَبْرُهُ عَلَى طَاعَةٍ حَظٌّ مِنْ بِرٍّ وَلَا نَصِيبٌ مِنْ صَلَاحٍ، وَمَنْ لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ صَبْرًا يُكْسِبُهَا ثَوَابًا. وَيَدْفَعُ عَنْهَا عِقَابًا، كَانَ مِنْ سُوءِ الِاخْتِيَارِ بَعِيدًا مِنْ الرَّشَادِ حَقِيقًا بِالضَّلَالِ. وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَا مَنْ يَطْلُبُ مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute