حَتَّى إذَا كَانَ فِيهِ قَدْحٌ عُورِضَ، أَوْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ رَدٌّ نُوقِضَ، كَالْجَدَلِ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ الْمُنَاظَرَةُ، وَتَقَعُ فِيهِ الْمُنَازَعَةُ وَالْمُشَاجَرَةُ، فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِيهِ مَعَ اجْتِمَاعِ الْقَرَائِحِ عَلَيْهِ خَلَلٌ إلَّا ظَهَرَ، وَلَا زَلَلٌ إلَّا بَانَ. وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَصْنَافِ الْأُمَمِ إلَى أَنَّ الْأَوْلَى اسْتِسْرَارُ كُلِّ وَاحِدٍ بِالْمَشُورَةِ لَيُجِيلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِكْرَهُ فِي الرَّأْيِ طَمَعًا فِي الْحُظْوَةِ بِالصَّوَابِ، فَإِنَّ الْقَرَائِحَ إذَا انْفَرَدَتْ اسْتَكَدَّهَا الْفِكْرُ وَاسْتَفْرَغَهَا الِاجْتِهَادُ، وَإِذَا اجْتَمَعَتْ فَوَّضَتْ وَكَانَ الْأَوَّلُ مِنْ بِدَائِهَا مَتْبُوعًا. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ وَجْهٌ، وَوَجْهُ الثَّانِي أَظْهَرُ.
وَاَلَّذِي أَرَاهُ فِي الْأَوْلَى غَيْرُ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَكِنْ يُنْظَرُ فِي الشُّورَى فَإِنْ كَانَتْ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ هَلْ هِيَ صَوَابٌ أَمْ خَطَأٌ كَانَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَيْهَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الِاعْتِرَاضُ عَلَى فَسَادِهِ، أَوْ ظُهُورُ الْحُجَّةِ فِي صَلَاحِهِ. وَهَذَا مَعَ الِاجْتِمَاعِ أَبْلَغُ، وَعِنْدَ الْمُنَاظَرَةِ أَوْضَحُ، وَإِنْ كَانَتْ الشُّورَى فِي خَطْبٍ قَدْ اسْتُبْهِمَ صَوَابُهُ، وَاسْتُعْجِمَ جَوَابُهُ، مِنْ أُمُورٍ خَافِيَةٍ وَأَحْوَالٍ غَامِضَةٍ لَمْ يَحْصُرْهَا عَدَدٌ وَلَمْ يَجْمَعْهَا تَقْسِيمٌ وَلَا عُرِفَ لَهَا جَوَابٌ يَكْشِفُ عَنْ خَطَئِهِ وَصَوَابِهِ. فَالْأَوْلَى فِي مِثْلِهِ انْفِرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ بِفِكْرِهِ، وَخُلُوِّهِ بِخَاطِرِهِ، لِيَجْتَهِدَ فِي الْجَوَابِ ثُمَّ يَقَعَ الْكَشْفُ عَنْهُ أَخَطَأٌ هُوَ أَمْ صَوَابٌ، فَيَكُونَ الِاجْتِهَادُ فِي الْجَوَابِ مُنْفَرِدًا وَالْكَشْفُ عَنْ الصَّوَابِ مُجْتَمِعًا؛ لِأَنَّ الِانْفِرَادَ فِي الِاجْتِهَادِ أَصَحُّ، وَالِاجْتِمَاعَ عَلَى الْمُنَاظَرَةِ أَبْلَغُ، فَهَكَذَا.
هَذَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْلَمَ أَهْلُ الشُّورَى مِنْ حَسَدٍ أَوْ تَنَافُسٍ، فَيَمْنَعَهُمْ مِنْ تَسْلِيمِ الصَّوَابِ لِصَاحِبِهِ. ثُمَّ يَعْرِضُ الْمُسْتَشِيرُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ مُشَارَكَتِهِمْ فِي الِارْتِيَاءِ وَالِاجْتِهَادِ فَإِذَا تَصَفَّحَ أَقَاوِيلَ جَمِيعِهِمْ كَشَفَ عَنْ أُصُولِهَا وَأَسْبَابِهَا، وَبَحَثَ عَنْ نَتَائِجِهَا وَعَوَاقِبِهَا، حَتَّى لَا يَكُونَ فِي الْأَمْرِ مُقَلِّدًا وَلَا فِي الرَّأْيِ مُفَوِّضًا، فَإِنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِذَلِكَ مَعَ ارْتِيَاضِهِ بِالِاجْتِهَادِ ثَلَاثَ خِصَالٍ:
إحْدَاهُنَّ: مَعْرِفَةُ عَقْلِهِ وَصِحَّةِ رَوِيَّتِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: مَعْرِفَةُ عَقْلِ صَاحِبِهِ وَصَوَابِ رَأْيِهِ.
وَالثَّالِثَةُ: وُضُوحُ مَا اسْتَعْجَمَ مِنْ الرَّأْيِ وَافْتِتَاحُ مَا أُغْلِقَ مِنْ الصَّوَابِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ لَهُ الرَّأْيُ أَمْضَاهُ فَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِعَوَاقِبِ الْإِكْدَاءِ فِيهِ، فَإِنَّ مَا عَلَى النَّاصِحِ الِاجْتِهَادُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ النُّجْحِ لَا سِيَّمَا وَالْمَقَادِيرُ غَالِبَةٌ. وَمَتَى عُرِفَ مِنْهُ تَعَقُّبُ الْمُشِيرِ وَكَلَ إلَى رَأْيِهِ، وَأَسْلَمَ إلَى نَفْسِهِ، فَصَارَ فَرْدًا لَا يُعَانُ بِرَأْيٍ وَلَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute