للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

عَلَيْهِ. فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ أُمَنَاءُ الْأَسْرَارِ أَشَدَّ تَعَذُّرًا وَأَقَلَّ وُجُودًا مِنْ أُمَنَاءِ الْأَمْوَالِ. وَكَانَ حِفْظُ الْمَالِ أَيْسَرَ مِنْ كَتْمِ الْأَسْرَارِ؛ لِأَنَّ إحْرَازَ الْأَمْوَالِ مَنِيعَةٌ وَإِحْرَازَ الْأَسْرَارِ بَارِزَةٌ يُذِيعُهَا لِسَانٌ نَاطِقٌ، وَيُشِيعُهَا كَلَامٌ سَابِقٌ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْقُلُوبُ أَوْعِيَةُ الْأَسْرَارِ، وَالشِّفَاءُ أَقْفَالُهَا وَالْأَلْسُنُ مَفَاتِيحُهَا، فَلْيَحْفَظْ كُلُّ امْرِئٍ مِفْتَاحَ سِرِّهِ.

وَمِنْ صِفَاتِ أَمِينِ السِّرِّ أَنْ يَكُونَ ذَا عَقْلٍ صَادٍّ، وَدِينٍ حَاجِزٍ، وَنُصْحٍ مَبْذُولٍ، وَوُدٍّ مَوْفُورٍ، وَكَتُومًا بِالطَّبْعِ. فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تَمْنَعُ مِنْ الْإِذَاعَةِ، وَتُوجِبُ حِفْظَ الْأَمَانَةِ، فَمَنْ كَمُلَتْ فِيهِ فَهُوَ عَنْقَاءُ مُغْرِبٍ.

وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: قُلُوبُ الْعُقَلَاءِ حُصُونُ الْأَسْرَارِ. وَلْيَحْذَرْ صَاحِبُ السِّرِّ أَنْ يُودِعَ سِرَّهُ مَنْ يَتَطَلَّعُ إلَيْهِ، وَيُؤْثِرُ الْوُقُوفَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ طَالِبَ الْوَدِيعَةِ خَائِنٌ.

وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: لَا تُنْكِحْ خَاطِبَ سِرِّك. وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ:

لَا تَدَعْ سِرًّا إلَى طَالِبِهِ ... مِنْك فَالطَّالِبُ لِلسِّرِّ مُذِيعُ

وَلْيَحْذَرْ كَثْرَةَ الْمُسْتَوْدَعِينَ لِسِرِّهِ فَإِنَّ كَثْرَتَهُمْ سَبَبُ الْإِذَاعَةِ، وَطَرِيقٌ إلَى الْإِشَاعَةِ؛ لِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا أَنَّ اجْتِمَاعَ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مُعْوِزٌ، وَلَا بُدَّ إذَا كَثُرُوا مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ أَخَلَّ بِبَعْضِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجِدُ سَبِيلًا إلَى نَفْيِ الْإِذَاعَةِ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ ذَنْبٌ، وَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ عَتْبٌ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: كُلَّمَا كَثُرَتْ خِزَانُ الْأَسْرَارِ ازْدَادَتْ ضَيَاعًا. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:

وَسِرُّك مَا كَانَ عِنْدَ امْرِئٍ ... وَسِرُّ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ الْخَفِي

وَقَالَ آخَرُ:

فَلَا تَنْطِقْ بِسِرِّك كُلُّ سِرٍّ ... إذَا مَا جَاوَزَ الِاثْنَيْنِ فَاشِي

ثُمَّ لَوْ سَلِمَ مِنْ إذَاعَتِهِمْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ إدْلَالِهِمْ وَاسْتِطَالَتِهِمْ، فَإِنَّ لِمَنْ

<<  <   >  >>