أَمْرًا، وَهُوَ أَرْخَصُ الْمَكَارِمِ ثَمَنًا وَأَلْطَفُ الصَّنَائِعِ مَوْقِعًا، وَرُبَّمَا كَانَ أَعْظَمَ مِنْ الْمَالِ نَفْعًا. وَهُوَ الظِّلُّ الَّذِي يَلْجَأُ إلَيْهِ الْمُضْطَرُّونَ، وَالْحِمَى الَّذِي يَأْوِي إلَيْهِ الْخَائِفُونَ. فَإِنْ أَوَطْأَهُ اتَّسَعَ بِكَثْرَةِ الْأَنْصَارِ وَالشِّيَعِ، وَإِنْ قَبَضَهُ انْقَطَعَ بِنُفُورِ الْغَاشِيَةِ وَالتَّبَعِ، فَهُوَ بِالْبَذْلِ يُنَمَّى وَيَزِيدُ، وَبِالْكَفِّ يَنْقُصُ وَيَبِيدُ، فَلَا عُذْرَ لِمَنْ مُنِحَ جَاهًا أَنْ يَبْخَلَ بِهِ فَيَكُونَ أَسْوَأَ حَالًا مِنْ الْبَخِيلِ بِمَالِهِ الَّذِي قَدْ يُعِدُّهُ لِنَوَائِبِهِ، وَيَسْتَبْقِيهِ لِلَذَّتِهِ، وَيَكْنِزُهُ لِذُرِّيَّتِهِ.
وَبِضِدِّ ذَلِكَ مَنْ بَخِلَ بِجَاهِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَضَاعَهُ بِالشُّحِّ وَبَدَّدَهُ بِالْبُخْلِ وَحَرَمَ نَفْسَهُ غَنِيمَةَ مُكْنَتِهِ، وَفُرْصَةَ قُدْرَتِهِ، فَلَمْ يُعْقِبْهُ إلَّا نَدَمًا عَلَى فَائِتٍ وَأَسَفًا عَلَى ضَائِعٍ وَمَقْتًا يَسْتَحْكِمُ فِي النُّفُوسِ وَذَمًّا قَدْ يَنْتَشِرُ فِي النَّاسِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ وَأَحَبُّ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إلَيْهِ أَحْسَنُهُمْ صَنِيعًا إلَى عِيَالِهِ» .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: اصْنَعْ الْخَيْرَ عِنْدَ إمْكَانِهِ يَبْقَى لَك حَمْدُهُ عِنْدَ زَوَالِهِ، وَأَحْسِنْ وَالدَّوْلَةُ لَك يُحْسَنُ لَك، وَالدَّوْلَةُ عَلَيْك، وَاجْعَلْ زَمَانَ رَخَائِك عُدَّةً لِزَمَانِ بَلَائِك. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مِنْ عَلَامَةِ الْإِقْبَالِ اصْطِنَاعُ الرِّجَالِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: بَذْلُ الْجَاهِ أَحَدُ الْحِبَاءَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْعَرَبُ تَقُولُ: مَنْ أَمَّلَ شَيْئًا هَابَهُ وَمِنْ جَهِلَ شَيْئًا عَابَهُ. وَبَذْلُ الْجَاهِ قَدْ يَكُونُ مِنْ كَرَمِ النَّفْسِ وَشُكْرِ النِّعْمَةِ وَضِدُّهُ مِنْ ضِدِّهِ وَلَيْسَ بَذْلُ الْجَاهِ لِالْتِمَاسِ الْجَزَاءِ بَذْلًا مَشْكُورًا، وَإِنَّمَا هُوَ بَائِعُ جَاهِهِ وَمُعَاوِضُ عَلَى نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَآلَائِهِ فَكَانَ بِالذَّمِّ أَحَقَّ. وَأَنْشَدَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ لِعَلِيِّ بْنِ عَبَّاسٍ الرُّومِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
لَا يَبْذُلُ الْعُرْفَ حِينَ يَبْذُلُهُ ... كَمُشْتَرِي الْحَمْدِ أَوْ كَمُعْتَاضِهِ
بَلْ يَفْعَلُ الْعُرْفَ حِينَ يَفْعَلُهُ ... لِجَوْهَرِ الْعُرْفِ لَا لِأَعْرَاضِهِ
وَعَلَى مَنْ أُسْعِدَ بِجَاهِهِ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ يَسْتَكْثِرُ بِهَا الشُّكْرَ وَيَسْتَمِدُّ بِهَا الْمَزِيدَ مِنْ الْأَجْرِ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَسْهِلَ الْمَعُونَةَ مَسْرُورًا، وَلَا يَسْتَثْقِلَهَا كَارِهًا، فَيَكُونَ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَبَرِّمًا وَلِإِحْسَانِهِ مُسْخِطًا.
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ عَظُمَتْ مَئُونَةُ النَّاسِ عَلَيْهِ» . فَمَنْ لَمْ يَحْتَمِلْ تِلْكَ الْمَئُونَةَ عَرَضَ تِلْكَ النِّعْمَةَ لِلزَّوَالِ. وَالثَّانِي: مُجَانَبَةُ الِاسْتِطَالَةِ وَتَرْكُ الِامْتِنَانِ فَإِنَّهُمَا مِنْ لُؤْمِ الطَّبْعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute