وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: حَقُّ الصَّدِيقِ أَنْ تَحْتَمِلَ لَهُ ثَلَاثًا: ظُلْمَ الْغَضَبِ، وَظُلْمَ الدَّالَّةِ، وَظُلْمَ الْهَفْوَةِ. وَحَكَى ابْنُ عَوْنٍ أَنَّ غُلَامًا هَاشِمِيًّا عَرْبَدَ عَلَى قَوْمٍ فَأَرَادَ عَمُّهُ أَنْ يُسِيءَ بِهِ فَقَالَ: يَا عَمِّ إنِّي قَدْ أَسَأْت وَلَيْسَ مَعِي عَقْلِي فَلَا تُسِئْ بِي وَمَعَك عَقْلُك.
وَقَالَ أَبُو نُوَاسٍ:
لَمْ أُؤَاخِذْكَ إذْ جَنَيْتَ لِأَنِّي ... وَاثِقٌ مِنْك بِالْإِخَاءِ الصَّحِيحِ
فَجَمِيلُ الْعَدُوِّ غَيْرُ جَمِيلٍ ... وَقَبِيحُ الصَّدِيقِ غَيْرُ قَبِيحِ
فَإِنْ تَشَبَّهَ خَطَؤُهُ بِالْعَمْدِ، وَسَهْوُهُ بِالْقَصْدِ، تَثَبَّتَ وَلَمْ يَلُمْ بِالتَّوَهُّمِ فَيَكُونَ مَلُومًا، وَلِذَلِكَ قِيلَ: التَّثَبُّتُ نِصْفُ الْعَفْوِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: لَا يُفْسِدُك الظَّنُّ عَلَى صَدِيقٍ أَصْلَحَك الْيَقِينُ لَهُ.
وَقَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ هُذَيْلٍ:
فَبَعْضُ الْأَمْرِ تُصْلِحُهُ بِبَعْضٍ ... فَإِنَّ الْغَثَّ يَحْمِلُهُ السَّمِينُ
وَلَا تَعْجَلْ بِظَنِّك قَبْلَ خُبْرٍ ... فَعِنْدَ الْخُبْرِ تَنْقَطِعُ الظُّنُونُ
تَرَى بَيْنَ الرِّجَالِ الْعَيْنُ فَضْلًا ... وَفِيمَا أَضْمَرُوا الْفَضْلُ الْمُبِينُ
كَلَوْنِ الْمَاءِ مُشْتَبَهًا وَلَيْسَتْ ... تُخْبِرُ عَنْ مَذَاقَتِهِ الْعُيُونُ
وَالثَّانِي: أَنْ يَعْتَمِدَ مَا اجْتَرَمَ مِنْ كَبَائِرِهِ، وَيَقْصِدَ مَا اجْتَرَحَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ.
وَلَا يَخْلُو فِيمَا أَتَاهُ مِنْ أَرْبَعِ أَحْوَالٍ: فَالْحَالُ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ مَوْتُورًا قَدْ قَابَلَ عَلَى وَتْرَتِهِ وَكَافَأَ عَلَى مُسَاءَتِهِ فَاللَّائِمَةُ عَلَى مَنْ وَتَرَهُ عَائِدَةٌ، وَإِلَى الْبَادِئِ بِهَا رَاجِعَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُكَافِئَ أَعَذْرُ، وَإِنْ كَانَ الصَّفْحُ أَجْمَلَ. وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إيَّاكُمْ وَالْمُشَارَّةَ فَإِنَّهَا تُمِيتُ الْغَيْرَةَ وَتُحْيِي الْغُرَّةَ» . وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ فَعَلَ مَا شَاءَ لَقِيَ مَا لَمْ يَشَأْ.
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: مَنْ نَالَتْهُ إسَاءَتُك هَمَّهُ مُسَاءَتُك. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مَنْ أُولِعَ بِقُبْحِ الْمُعَامَلَةِ أُوجِعَ بِقُبْحِ الْمُقَابَلَةِ. وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ:
إذَا وَتَرْت امْرَأً فَاحْذَرْ عَدَاوَتَهُ ... مَنْ يَزْرَعْ الشَّوْكَ لَا يَحْصُدْ بِهِ عِنَبَا
إنَّ الْعَدُوَّ وَإِنْ أَبْدَى مُسَالَمَةً ... إذَا رَأَى مِنْك يَوْمًا فُرْصَةً وَثَبَا
وَالْإِغْضَاءُ عَنْ هَذَا أَوْجَبُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْمُكَافَأَةُ ذَنْبًا لِأَنَّهُ قَدْ رَأَى عُقْبَى