صِلْ مَنْ دَنَا وَتَنَاسَ مَنْ بَعُدَا ... لَا تُكْرِهَنَّ عَلَى الْهَوَى أَحَدَا
قَدْ أَكْثَرَتْ حَوَّاءُ إذْ وَلَدَتْ ... فَإِذَا جَفَا وَلَدٌ فَخُذْ وَلَدَا
فَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ قَلَّ وَفَاؤُهُ، وَضَعُفَ إخَاؤُهُ، وَسَاءَتْ طَرَائِقُهُ، وَضَاقَتْ خَلَائِقُهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلُ الِاحْتِمَالِ، وَلَا صَبْرٌ عَلَى الْإِدْلَالِ، فَقَابَلَ عَلَى الْجَفْوَةِ، وَعَاقَبَ عَلَى الْهَفْوَةِ، وَاطَّرَحَ سَالِفَ الْحُقُوقِ، وَقَابَلَ الْعُقُوقَ بِالْعُقُوقِ، فَلَا بِالْفَضْلِ أَخَذَ وَلَا إلَى الْعَفْوِ أَخْلَدَ.
وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ نَفْسَهُ قَدْ تَطْغَى عَلَيْهِ فَتُرْدِيهِ، وَأَنَّ جِسْمَهُ قَدْ يَسْقَمُ عَلَيْهِ فَيُؤْلِمُهُ وَيُؤْذِيهِ، وَهُمَا أَخَصُّ بِهِ وَأَحْنَى عَلَيْهِ مِنْ صَدِيقٍ قَدْ تَمَيَّزَ بِذَاتِهِ، وَانْفَصَلَ بِأَدَوَاتِهِ فَيُرِيدُ مِنْ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ مَا لَا يَجِدُهُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ. هَذَا عَيْنُ الْمُحَالِ وَمَحْضُ الْجَهْلِ مَعَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْتَمِلْ بَقِيَ فَرْدًا وَانْقَلَبَ الصَّدِيقُ فَصَارَ عَدُوًّا. وَعَدَاوَةُ مَنْ كَانَ صَدِيقًا أَعْظَمُ مِنْ عَدَاوَةِ مَنْ لَمْ يَزَلْ عَدُوًّا. وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَوْصَانِي رَبِّي بِسَبْعٍ: الْإِخْلَاصُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَأَنْ أَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنِي وَأُعْطِيَ مَنْ حَرَمَنِي وَأَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي وَأَنْ يَكُونَ صَمْتِي فِكْرًا، وَنُطْقِي ذِكْرًا وَنَظَرِي عِبْرَةً» .
وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لَا تَتْرُكْ صَدِيقَك الْأَوَّلَ فَلَا يَطْمَئِنَّ إلَيْك الثَّانِي، يَا بُنَيَّ اتَّخَذَ أَلْفَ صَدِيقٍ وَالْأَلْفُ قَلِيلٌ وَلَا تَتَّخِذْ عَدُوًّا وَاحِدًا وَالْوَاحِدُ كَثِيرٌ. وَقِيلَ لِلْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ: مَا تَقُولُ فِي الْعَفْوِ وَالْعُقُوبَةِ؟ قَالَ: هُمَا بِمَنْزِلَةِ الْجُودِ وَالْبُخْلِ فَتَمَسَّكْ بِأَيِّهِمَا شِئْتَ.
وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ:
إذَا أَنْتَ لَمْ تَسْتَقْبِلْ الْأَمْرَ لَمْ تَجِدْ ... بِكَفَّيْكَ فِي إدْبَارِهِ مُتَعَلِّقَا
إذَا أَنْتَ لَمْ تَتْرُكْ أَخَاكَ وَزَلَّةً ... إذَا زَلَّهَا أَوْشَكْتُمَا أَنْ تَفَرَّقَا
فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتُ فَمِنْ حُقُوقِ الصَّفْحِ الْكَشْفُ عَنْ سَبَبِ الْهَفْوَةِ لِيَعْرِفَ الدَّاءَ فَيُعَالِجَهُ فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الدَّاءَ لَمْ يَقِفْ عَلَى الدَّوَاءِ كَمَا قَدْ قَالَ الْمُتَنَبِّي:
فَإِنَّ الْجُرْحَ يَنْفِرُ بَعْدَ حِينٍ ... إذَا كَانَ الْبِنَاءُ عَلَى فَسَادِ
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ السَّبَبِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِمِلَلٍ أَوْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute