للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الْمِدَادِ أَثَرًا جَمِيلًا، وَعَلَى الْفَضْلِ وَالتَّخْصِيصِ دَلِيلًا. حُكِيَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ سُلَيْمَانَ رَأَى عَلَى بَعْضِ ثِيَابِهِ أَثَرَ صُفْرَةٍ فَأَخَذَ مِنْ مِدَادِ الدَّوَاةِ فَطَلَاهُ بِهِ ثُمَّ قَالَ: الْمِدَادُ بِنَا أَحْسَنُ مِنْ الزَّعْفَرَانِ، وَأَنْشَدَ:

إنَّمَا الزَّعْفَرَانُ عِطْرُ الْعَذَارَى ... وَمِدَادُ الدُّوِيِّ عِطْرُ الرِّجَالِ

فَهَذِهِ جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ فِي الْإِبَانَةِ عَلَى الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ فَهْمِ الْكَلَامِ وَمَعْرِفَةِ مَعَانِيهِ لَفْظًا كَانَ أَوْ خَطًّا، وَاَللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.

فَيَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَكْشِفَ عَنْ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ عَنْ فَهْمِ الْمَعْنَى لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَيْهِ، ثُمَّ يَكُونُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَائِسًا لِنَفْسِهِ مُدَبِّرًا لَهَا فِي حَالِ تَعَلُّمِهِ. فَإِنَّ لِلنَّفْسِ نُفُورًا يُفْضِي إلَى تَقْصِيرٍ وَوُفُورًا يَئُولُ إلَى سَرَفٍ وَقِيَادُهَا عَسِرٌ وَلَهَا أَحْوَالٌ ثَلَاثٌ: فَحَالُ عَدْلٍ وَإِنْصَافٍ، وَحَالُ غُلُوٍّ وَإِسْرَافٍ، وَحَالُ تَقْصِيرٍ وَإِجْحَافٍ.

فَأَمَّا حَالُ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ فَهِيَ أَنْ تَخْتَلِفَ قُوَى النَّفْسِ مِنْ جِهَتَيْنِ مُتَقَابِلَتَيْنِ: طَاعَةٌ مُسْعِدَةٌ وَشَفَقَةٌ كَافَّةٌ. فَطَاعَتُهَا تَمْنَعُ التَّقْصِيرَ، وَشَفَقَتُهَا تَرُدُّ عَنْ السَّرَفِ وَالتَّبْذِيرِ. وَهَذِهِ أَحْمَدُ الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّ مَا مُنِعَ مِنْ التَّقْصِيرِ نَمَا، وَمَا صُدَّ عَنْ السَّرَفِ مُسْتَدِيمٌ. وَالنُّمُوُّ إذَا اسْتَدَامَ فَأَخْلِقْ بِهِ أَنْ يُسْتَكْمَلَ.

وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إيَّاكَ وَمُفَارَقَةَ الِاعْتِدَالِ، فَإِنَّ الْمُسْرِفَ مِثْلُ الْمُقَصِّرِ فِي الْخُرُوجِ عَنْ الْحَدِّ.

وَأَمَّا حَالُ الْغُلُوِّ وَالْإِسْرَافِ فَهِيَ أَنْ تَخْتَصَّ النَّفْسُ بِقُوَى الطَّاعَةِ وَتُقَدِّمَ قَوَّى الشَّفَقَةِ فَيَبْعَثَهَا اخْتِصَاصُ الطَّاعَةِ عَلَى إفْرَاغِ الْجُهْدِ، وَيُفْضِي إفْرَاغُ الْجُهْدِ إلَى عَجْزِ الْكَلَالِ، فَيُؤَدِّي عَجْزُ الْكَلَالِ إلَى التَّرْكِ وَالْإِهْمَالِ، فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ نُقْصَانًا، وَالرِّبْحُ خُسْرَانًا. وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ: طَالِبُ الْعِلْمِ وَعَامِلُ الْبِرِّ كَآكِلِ الطَّعَامِ إنْ أَخَذَ مِنْهُ قُوتًا عَصَمَهُ، وَإِنْ أَسْرَفَ فِيهِ أَبْشَمَهُ.

وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ مَنِيَّتُهُ كَأَخْذِ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي فِيهَا شِفَاءٌ وَمُجَاوَزَةُ الْقَصْدِ فِيهَا السُّمُّ الْمُمِيتُ، وَأَمَّا حَالُ التَّقْصِيرِ وَالْإِجْحَافِ فَهِيَ أَنْ تَخْتَصَّ النَّفْسُ بِقُوَى الشَّفَقَةِ وَتَعْدَمَ قُوَى الطَّاعَةِ فَيَدْعُوهَا الْإِشْفَاقُ إلَى الْمَعْصِيَةِ، وَتَمْنَعُهَا الْمَعْصِيَةُ مِنْ الْإِجَابَةِ فَلَا تَطْلُبُ شَارِدًا، وَلَا تَقْبَلُ عَائِدًا، وَلَا تَحْفَظُ مُسْتَوْدَعًا.

وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ الشَّارِدَ، وَيَقْبَلْ الْعَائِدَ، وَيَحْفَظْ الْمُسْتَوْدَعَ فَقَدَ الْمَوْجُودَ، وَلَمْ يَجِدْ الْمَفْقُودَ.

وَمَنْ فَقَدَ مَا وَجَدَ فَهُوَ مُصَابٌ مَحْزُونٌ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَا فَقَدَ فَهُوَ

<<  <   >  >>