للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

عَمِلَ، أَنَمُّ مِنْ هُبُوبِ النَّسِيمِ بِمَا حَمَلَ.

وَلِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: أَفْضَلُ الزُّهْدِ إخْفَاءُ الزُّهْدِ. وَرُبَّمَا أَحَسَّ ذُو الْفَضْلِ مِنْ نَفْسِهِ مَيْلًا إلَى الْمُرَاءَاةِ، فَبَعَثَهُ الْفَضْلُ عَلَى هَتْكِ مَا نَازَعَتْهُ النَّفْسُ مِنْ الْمُرَاءَاةِ فَكَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي فَضْلِهِ، كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَحَسَّ عَلَى الْمِنْبَرِ بِرِيحٍ خَرَجَتْ مِنْهُ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي قَدْ مَثَلْت بَيْنَ أَنْ أَخَافَكُمْ فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَبَيْنَ أَنْ أَخَافَ اللَّهَ فِيكُمْ، فَكَانَ أَنْ أَخَافَ اللَّهَ فِيكُمْ أَحَبَّ إلَيَّ أَلَا وَإِنِّي قَدْ فَسَوْتُ، وَهَا أَنَا نَازِلٌ أُعِيدُ الْوُضُوءَ. فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ زَجْرًا لِنَفْسِهِ لِتَكُفَّ عَنْ نِزَاعِهَا إلَى مِثْلِهِ.

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: عِظْنِي فَقَالَ: لَا أَرْضَى نَفْسِي لَك وَاعِظًا؛ لِأَنِّي أَجْلِسُ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فَأَمِيلُ عَلَى الْفَقِيرِ وَأُوَسِّعُ لِلْغَنِيِّ، وَلِأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَمَلِ لِوَجْهِهِ لَا لِغَيْرِهِ. وَحُكِيَ أَنَّ قَوْمًا أَرَادُوا سَفَرًا فَحَادُوا عَنْ الطَّرِيقِ، فَانْتَهَوْا إلَى رَاهِبٍ فَقَالُوا: قَدْ ضَلَلْنَا، فَكَيْفَ الطَّرِيقُ؟ فَقَالَ: هَهُنَا وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إلَى السَّمَاءِ.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَفْعَلَ الزِّيَادَةَ اقْتِدَاءً بِغَيْرِهِ. وَهَذَا قَدْ تُثْمِرُهُ مُجَالَسَةُ الْأَخْيَارِ الْأَفَاضِلِ، وَتُحْدِثُهُ مُكَاثَرَةُ الْأَتْقِيَاءِ الْأَمَاثِلِ. وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» . فَإِذَا كَاثَرَهُمْ الْمُجَالِسَ، وَطَاوَلَهُمْ الْمُؤَانِسَ، أَحَبَّ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي أَفْعَالِهِمْ، وَيَتَأَسَّى بِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يُقَصِّرَ عَنْهُمْ، وَلَا أَنْ يَكُونَ فِي الْخَيْرِ دُونَهُمْ، فَتَبْعَثُهُ الْمُنَافَسَةُ عَلَى مُسَاوَاتِهِمْ، وَرُبَمَا دَعَتْهُ الْحَمِيَّةُ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمْ وَالْمُكَاثَرَةِ لَهُمْ فَيَصِيرُوا سَبَبًا لِسَعَادَتِهِ، وَبَاعِثًا عَلَى اسْتِزَادَتِهِ.

وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَوْلَا الْوِئَامُ لَهَلَكَ الْأَنَامُ. أَيْ لَوْلَا أَنَّ النَّاسَ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيَقْتَدِي بِهِمْ فِي الْخَيْرِ لَهَلَكُوا. وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مِنْ خَيْرِ الِاخْتِيَارِ صُحْبَةُ الْأَخْيَارِ، وَمِنْ شَرِّ الِاخْتِيَارِ مَوَدَّةُ الْأَشْرَارِ.

وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ لِلْمُصَاحَبَةِ تَأْثِيرًا فِي اكْتِسَابِ الْأَخْلَاقِ، فَتَصْلُحُ أَخْلَاقُ الْمَرْءِ بِمُصَاحَبَةِ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَتَفْسُدُ بِمُصَاحَبَةِ أَهْلِ الْفَسَادِ. وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ:

رَأَيْت صَلَاحَ الْمَرْءِ يُصْلِحُ أَهْلَهُ ... وَيُعْدِيهِمْ عِنْدَ الْفَسَادِ إذَا فَسَدْ

<<  <   >  >>