للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

لما شرع السجود بوصف التكرار لم يكن بد من الفصل بين السجدتين ففصل بينهما بركن مقصود شرع فيه من الدعاء ما يليق به ويناسبه وهو سؤال العبد المغفرة والرحمة والهداية والعافية والرزق, فإن هذه تتضمن جلب خير الدنيا والآخرة ودفع شر الدنيا والآخرة.

فالرحمة تحصل الخير, والمغفرة تقي الشر, والهداية توصل إلى هذا وهذا, والرزق إعطاء ما به قوام البدن من الطعام والشراب وما به قوام الروح والقلب من العلم والإيمان, وجعل جلوس الفصل محلا لهذا الدعاء لما تقدمه من رحمة الله والثناء عليه والخضوع له فكان هذا وسيلة للداعي ومقدمة بين يدي حاجته فهذا الركن مقصود الدعاء فيه فهو ركن وضع للرغبة وطلب العفو والمغفرة والرحمة؛ فإن العبد لما أتى بالقيام والحمد والثناء والمجد ثم أتى بالخضوع وتنزيه الرب وتعظيمه ثم عاد إلى الحمد والثناء ثم كمل ذلك بغاية التذلل والخضوع والاستكانة بقي سؤال حاجته واعتذاره وتنصله؛ فشرع له أن يتمثل في الخدمة فيقعد فعل العبد الذليل جاثيا على ركبتيه كهيئة الملقي نفسه بين يدي سيده راغبا راهبا معتذرا إليه مستعديا إليه على نفسه الأمارة بالسوء.

ثم شرع له تكرير هذه العبودية مرة بعد مرة إلى إتمام الأربع, كما شرع له تكرير الذكر مرة بعد مرة لأنه أبلغ في حصول المقصود وأدعى إلى الاستكانة والخضوع, فلما أكمل ركوع الصلاة وسجودها وقراءتها وتسبيحها فالتابعون شرع له أن يجلس في آخر صلاته جلسة المتخشع المتذلل المستكين جاثيا على ركبتيه ويأتي في هذه الجلسة بأكمل التحيات وأفضلها عوضا عن تحية المخلوق للمخلوق إذا واجهه أو دخل عليه فإن الناس يحيون ملوكهم وأكابرهم بأنواع التحيات التي يحيون بها قلوبهم, فبعضهم يقول: أنعم صباحا, وبعضهم يقول: لك البقاء والنعمة, وبعضهم يقول: أطال الله بقاءك. وبعضهم يقول: تعيش ألف عام, وبعضهم يسجد للملوك وبعضهم يسلم, فتحياتهم بينهم تتضمن ما بحبه المحيى من الأقوال والأفعال والمشركون يحيون أصنامهم.

قال الحسن: كان أهل الجاهلية يتمسحون بأصنامهم ويقولون: لك الحياة الدائمة, فلما جاء الإسلام أمروا أن يجعلوا أطيب تلك التحيات وأزكاها وأفضلها لله

<<  <   >  >>