هذه كلُّها أوامرُ للنَّدبِ في قيامِ الليلِ كما دلت عليه السنةُ المطهرةُ؛ فعليك أن تسارعَ إلى القيامِ بما أوجبَ اللهُ عليك، فإنَّه أحبُّ ما تقربتَ به إليه، وأنتَ عبدٌ ضعيفٌ فقيرٌ إلى عفوِ ربِّك وغناه وجزائِه ومثوبتِه، فبادر إلى التنفُّلِ في جوفِ الليلِ فإنَّه أفضلُ الصلاةِ بعدَ الفريضةِ، وتذكَّر أنَّ قيامَ الليلِ صفةُ عبادِ اللهِ المؤمنين الذين امتدحهم وأثنى عليهم. ووصفَ ما أعدَّه اللهُ لهم من نعيمٍ وما لهم من ثوابٍ في محكمِ كتابِه في آياتٍ متعددةٍ منها قولُه تعالى:(تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) هذه صفتُهم وهذا عملُهم، أما جزاؤهم فإنَّه أعظمُ مما قدَّموا:(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[السجدة:١٦،١٧]
فأيُّ نعيمٍ هذا وأيُّ جزاءٍ وأيُّ مثوبةٍ، العملُ لها سهلٌ ميسورٌ، وقليلٌ إذا قرن بما له من جزاءٍ. وحينما يقومُ المرءُ المسلمُ بهذا العملِ ويستحضرُ ذلك الجزاءَ فإنه لا يجدُ تعبًا ولا كللاً، بل يجد اللَّذةَ التي تحلِّقُ به في جوِّ السماءِ ليعيشَ في السعادةِ التي لا ينالها إلا أصحابُ الليالي الساهرةِ في عبادةِ اللهِ.
أصحاب هذه الليالي أخبرنا الله عن مشهد من مشاهد لياليهم، فقال:(إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا)[الإسراء:١٠٧-١٠٩] .