للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فاشتقّ حينئذ الحدا هادياً هادياً على قوله وايداه وايداه. فكان الحدا أول السماع والترجيع في العرب. ثم اشتق الغناء من الحداء حباب بن عبد الله الكلبي فغنى النصب وتمن نساء العرب على موتاهن ولم أرَ أمه بعد الفرس والروم أولع بالملاهي ولا أطرب من العرب. وكان غناءهم النصب ثلاثة أجناس: الركباني والسناد الثقيل والهزج الخفيف. فأول من غنى من العرب العاربة الجرادتان وكانتا قينتين على عهد عاد لمعوية بن بكر العملقي وكانت تسمّى القينة الكرينة والعود المزمر. قال لبيد:

أغلى السباء بكل أدكن عاتقٍ ... أوجونةٍ قدحت وفض ختامها

بصبوح صافيةٍ وجذب كرينةٍ ... بموتّر تأتالهُ إبهامها

ثم غنى جُذيمة الخزُاعي بن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمر بن عامر وكان من أحسن الناس صوتاً فسمي المصطلق وهو الحسن الخلق في كلام العرب غناء النصب.

ثم غنى بعده ربيعة وهو ضبيس الخُزاعي بن حزام بن حيشة بن سلول بن كعب بن عمرو بن عامر.

ثم غنى زمام بن خطام الكلبي الذي يقول فيه الصمة القشيري:

دعوت زماماً للهوى فأجابني ... واي فتى للهو بعد زمام

[القيان عند العرب]

وأول من اتّخذ القيان من العرب أهل يثرب أخذوا ذلك من بقايا عاد.

ولم تكن قريش تعرف من الغنا إلا النصب حتى قدم النضر بن الحرث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي العراق فتعلّم بالحيرة ضرب العود وغناء العبادين فقدم مكة فعلّم أهلها فاتخذوا القيان.

والغناء من أكبر اللذات وأسرّ للنفس من جميع الشهوات يرق الذهن ويلين العريكة ويهيج النفس ويسرّها ويشجع الجبان ويسخي البخيل ويحيى القلب ويزيد في العقل ويفتح في الرأي وله مع النبيذ تعاون على الحزن الماد للبدن يحدثان له نشاطاً ويفرجان للكرب. والغناء على الانفراد يفعل ذلك. قال عبد الله بن جعفر أن للطرب لأريحية لو لقيت عندها لأبليت ولو سألت لأعطيت. قال الحطيئة: جنّبوبي الغناء فإنه رقية الزنا.

قال الشاعر:

لا تبعثن إلى همومك إن ثوت ... غير المدام ونغمة الأوتار

فلله درّ حكيم استنبطه وفيلسوف استخرجه أي غامض ومكنون كشف وعلى أي دفين ومكتوم دل وإلي أي علم وفضيلة سبق فذاك نشيج وحده وقريع دهره. وقال جالينوس: يحتاج السمع أن يرق بالصوت المونق كما يحتاج البدن إلى اعتدال الطبائع. والغناء غذاء السمع كما أن الطعام غذاء البدن فقد نرى أهل الصناعات الذين يكدّون براً وبحراً إذا خافوا الملالة والفتور ترنموا وشغلوا أنفسهم بذلك عن ألم التعب. ونرى الشجعاء وأبناء الحرب قد احتالوا بنفخ أنواع البوقات وقرعوا الطبول لتهون عليهم الشدائد. ونرى بالمد أهل العبادة والرهبانية يبكون على خطاياهم بالألحان الشجية يستريحون إلى ذلك.

وقد حدّث الوليد بن سلمة عن ابن جرير عن عطاء عن عبيد بن عمير الليثي قال: كانت لداود النبي عليه السلام معزفة فكان إذا أراد أن يبكي ضرب بها، فردد صوته فبكا وأبكا.

وحدّث يحيى بن العلاء عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن ابن عبّاس قال: كان داود يقرأ الزبور ثلاثين صوتاً يطرب منهن المحموم. وكان إذا كان أخر الليل فأراد أن يبكي نفسه لم يبقَ حوله دابّة ولا وحش إلا بكى لبكائه. ورووا أنه كان يزمر بمزمارة عند ملك بني إسرائيل فيسكن ما كان به من الخبل والمسّ.

ونرى الطفل يرتاح للغناء. وسيتبدل ببكائه ضحكاً. ونرى الإبل يحدوا بها الحادي فتمعن في سيرها. ونرى الراعي يرفع يراعه فتجد الشاة في رعيها وتصفر الفرسان في المشارع فتجد الدوابّ في شربها. قال الشاعر:

اليوم يوم بكور ... على تمام السرور

ويوم عزف قيان ... مثل التماثيل حور

ولا تكاد جياد ... تروا بغير صفير

وقال أبو نواس:

وجدت ألذ عارية الليالي ... قران النغم بالوتر الصحيح

ومسمعه إذا ماشئت غنت ... متى كان الخيام بذي طلوح

الحيوان الطروب

<<  <   >  >>