ولا يرضى منها بأن تَتَمهَّل في حركتها، ثم لما بدأ بذلك أوّلاً اعتبره في التشبيه آخِراً فقال: نُطِيرُ غراباً، ولم يقل: غراب يطير مثلاً، وذلك أن الغرابَ وكلَّ طائر إذا كان واقعاً هادئاً في مكان، فأُزْعِج وأُخِيفَ وأُطِير منه، أو كان قد حُبس في يدٍ أو قَفَصٍ فأُرسل، كان ذلك لا محالةَ أسرعَ لطيرانه وأعجلَ وأمدَّ له وأبعدَ لأمَدِهِ، فإنَّ تلك الفَزْعةَ التي تعرِضُ له من تنفيره، أو الفرحة التي تُدركه وتَحْدُثُ فيه من خَلاصه وانفلاته، ربما دعته إلى أن يستمرّ حتى يغيب عن الأفق ويصير إلى حيث لا تراه العيون، وليس كذلك إذا طار عن اختيار، لأنه يجوز حينئذ أن يصير إلى مكان قريب من مكانه الأوّل، وأن لا يُسْرِع في طيرانه، بل يمضي على هِينَتِه ويتحرّك حركةَ غيرِ المستعجلِ فاعرفه. ومما حقُّه أنْ يكون على فَرْط الاستقصاء في التشبيه وفضل العناية بتأكيد ما بُدئ به، قولُ أبي نواس في صِفة البازي:
في هَامةٍ غَلْبَاءَ تَهْدِي مِنْسَرَا ... كَعَطْفةِ الجِيم بِكَفِّ أَعْسَرَا
أراد أن يشبّه المِنقار بالجيم، والجيمُ خطَّان الأول الذي هو مبدأُه وهو الأعلى، والثاني وهو الذي يذهب إلى اليسار، وإذا لم توصل فلها تعريقٌ كما لا يخفى، والمنقار إنّما يُشبه الخطَّ الأعلى فقط، فلما كان كذلك قال: