للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قواعد الأدلة الشرعية:

وهو أن نفي قطعية خبر الواحد مبني على النظرة التجريدية إلى أصول الفقه وأدلته عند تأصيل القواعد المتعلقة بتلك الأصول والأدلة، وإثبات القطعية ربما كان مبناه النظرة الشاملة للأدلة وأصول الفقه عند تأصيل قواعد الأدلة، أي النظر في القرائن واستقراء ملابسات الدليل أو القاعدة والنظر إلى جميع ما من شأنه أن يبين ذلك من الجزئيات والمقاصد الشرعية.

والنظر الأول هو الغالب في كتابات المتكلمين ومن نهج طريقتهم في أصول الفقه، فيكثر عندهم نفي القطعية ويعنون بذلك مطلق خبر واحد عدل، بل ربما أُخِذ من كلام بعضهم أنه ينازع في مطلق خبر واحد عدل أو فاسق١.

والنظر الثاني هو نظرة من يأخذ في الاعتبار شواهد الدليل ويستقرئ قرائنه عند الكلام عليه، ومحققو المحدثين - ممن ينظر في الشواهد والمتابعات٢ وأحوال السند والطرق المختلفة للأخبار - يقفون على القرائن الكثيرة المعززة للخبر، فيكثر عندهم القول بقطعية خبر الواحد ويعنون به خبرَ واحدٍ احتف به قرائن اطلعوا عليها٣، وهذا النظر من أهم خصائص منهج الإمام


١ انظر تحرير محل النزاع في مطلع هذا المبحث.
٢ قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح في الاعتبار والشواهد والمتابعات: "هذه أمور يتداولونها في نظرهم في حال الحديث هل تفرد به راويه أو لا وهل هو معروف أو لا؟ ". مقدمة ابن الصلاح ص١٨٢، وانظر دليل أرباب الفلاح للشيخ حافظ الحكمي ص١٧-١٨.
٣ والتقييد بالتحقيق في علم الحديث لأن من ينظر في الأحاديث قد يقع في خطأ آخر وهو القطع بخبر لم تحتف به قرائن القطعية، فهو يقطع اعتمادا على ظاهره فقط دون التحقيق، والقطع بدليل دون موجبه خطأ.
وأشار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مجموع الفتاوى (١٣/٣٥٢-٣٥٤) إلى طرفي الناس الواقعين في الخطأ في هذا قائلا: "والناس في هذا الباب طرفان: طرف من أهل الكلام ونحوهم ممن هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله لا يميز بين الصحيح والضعيف فيشك في صحة أحاديث أو في القطع بها مع كونها معلومة مقطوعا بها عند أهل العلم به، وطرف آخر ممن يدعي اتباع الحديث والعمل به كلما وجد لفظاً في حديث قد رواه ثقة أو رأى حديثا بإسناد ظاهره الصحة يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم به أهل العلم بصحته حتى إذا عارض الصحيح المعروف أخذ يتكلف له التأويلات الباردة أو يجعله دليلا في مسائل العلم، مع أن أهل العلم بالحديث يعرفون أن مثل هذا غلط".
فدل ما ذكره - رحمه الله - في الطرف الثاني أنه لا يجوز القطع بأخبار لم تحتف بها قرائن تفيد القطع في الأخبار ولا جعلها في مصاف الأحاديث القطعية المجزوم بحقيقة الأمر فيها وإنما الواجب فيها اعتقاد الظاهر منها دون القطع لعله يتبين الأمر فيها بالتحقيق، وأن المسائل التي فيها أدلة شرعية مفيدة للعلم لا يستدل فيها بأخبار لم يعلم صحتها إلا من ظاهر أسانيدها دون النظر في التحقيق فيها وهو تتبع القرائن وقول أهل الشأن في علم الحديث، فقد يكون الخبر ظاهر الصحة بالنظر إلى إسناده ويكون فيه علة خفية قادحة.

<<  <   >  >>