وتوقيع العقوبات الإدراية عليهم، وإن كنت قد حصرت المسئولية بعد ذلك في حيدر باشا، لا لأني كنت أتعقبه شخصيًّا؛ بل لأن جميع الحوادث والوثائق الرسمية التي اطلعت عليها -والتي لا تزال تحت يدي- كانت تنتهي إليه وإلى تصرفاته، وقد قلت يومها بالحرف الواحد:
"ليس ذنبي أن تنحصر المسئولية في حيدر باشا؛ بل ليثق معاليه أني تعبت وتعب معي قلمي لأعفيه من المسئولية، أو من بعض المسئولية؛ ولكن عبثًا، فكل مستند كان يقع في يدي كان ينتهي إليه، وكل تصرف أو إجراء أو عملية تمت خلال الحملة كانت تتم بعلم معاليه وموافقته.. فهو مسئول دائمًا، ومسئول أولًا، ومسئول أخيرًا".
وكانت هذه الوثائق التي نشرتها، كلها وثائق رسمية محدودة التاريخ والصورة، وكانت تثبت أن حيدر باشا يتدخل في وضع الخطط الحربية، وفي إصدار أوامر التقدم رغم معارضة القواد، وفي إرسال فرق كاملة إلى القتال لتموت دون أن يدرب أفرادها؛ بل دون أن يلقنهم مبادئ الدفاع عن النفس، ثم يسد أذنيه عن صراخ المواوي وهو يشكو نقص تدريب الجنود، ويشكو فساد الأسلحة وفساد حتى سيارات النقل، ويشكو من التدخل في سلطاته، ويشكو من إجباره على الاستعانة بضباط معينين رغم عدم ثقته بهم ... إلخ!!
ولم أكتفِ بهذه الوثائق الصارخة الدامغة لإقناع المسئولين بضرورة إجراء تحقيق في أسباب هزيمة فلسطين؛ بل استشهدت بالتاريخ.. تاريخ الجيوش العريقة التي تعتز بتقاليدها، والتي تحرص على معالجة مواضع الضعف فيها، وتحرص على أن تتجنب الوقوع في خطأ سبق أن وقعت فيه، وتأبَى أن تضع أرواح جنودها وضباطها في أيدي قواد جهلة عاجرين، حتى لو كان هؤلاء القواد من أبطال الفضيلة والنزاهة والشرف.. وقلت: إنه حدث مثل هذا التحقيق عندما هزم الجيش البريطاني في حرب البوير، وحدث مثله في الحرب العالمية الأولى عقب أسر فرقة إنجليزية بكامل معداتها في معركة "كوت العمارة" بالعراق، وحدث تحقيق آخر عقب فشل حملة الدردنيل، وفي كل مرة كان يتراجع فيها الجيش البريطاني، في الحرب الأخيرة كان يجرى تحقيق ينتهي بعزل القائد حتى تتابع على قيادة القوات البريطانية في الشرق خمسة قواد، كان آخرهم مونتجمري..
كتبت كل هذا بالتفصيل الذي لا يدع مجالًا للشك في ضرورة التحقيق في أسباب هزيمة فلسطين، والتحقيق مع الفريق حيدر باشا بالذات، ثم